د. خيرية السقاف
يا بني, انظر إليكَ ذاتكَ وأنتَ ترحم ابنك, وعدْ فتفكَّر في رحمة أمكَ بكَ
كم من الشَّغف, والحدْبِ, والحب, والفداء, والعطاء , والتضحية, والإيثار, والتفضيل عن الذات, والعناية بالتفاصيل وأنت تطعمه, وهي تفعل, وأنتَ تقدمه عن ذاتكَ, وهي تفعل, وأنتما لا تتوانيان عن كل ذلك من أجل بسمة على شفته, وشفتكَ, وعافية تتمتع بها, وهو كذلك, ورغداً من العيش تظفران به , وأمك تنسى نفسها من أجلكَ, وأنتَ لا تكاد تنام من أجلِ صغيركَ؟!!
هذه الرحمة المكتنزة بها صدور الأمهات والآباء, هذه التي في صدر أمكَ لك, وفي صدرك لابنك, هي شعاع يسير من رحمة ربِّكَ بك..
بهذه الحزمة من شعاع رحمته تعالى ألَّف بين جزيئات الكون في أكوانه العظمى, القريب منك منها تشهده في ارتفاع السماء بلا عمد فلا تسقط على الأرض, وفي رسو الجبال على الأرض فلا تميد بمن عليها, الشجر والماء والثرى والجوف والفضاء بشمسه وظلامه بهوائه ومطره, ببحره, وطيره, ودوابه, بزواحفه ورماله, كلها تتآلف في سيرورة سرمدية لا يطغى فيها جزء على جزء, ولا ينفر فيها جزء عن جزء, تمضي برحمة الله كما شاء لها في تآلف مرحوم بشعلة من مدِّه العظيم..
قلبك يا بني كما أرض الله قد زرع فيه رحمة بحجم قدراتك, خصصت بها من تحب فكان أبوك وأمك بدءاً , مذ تلثغ أول رائحة في حضنهما, لأول لثغة حرف في مخارج نُطقكَ..
أول حب أي أول نبض ألفة بهذا الكائن المشارك لك دبيبك فوق الأرض..
تأمّل كل هذا يا بني, تحسّس نبضك لابنك, رحمتك به, شعورك نحوه, نواياك من أجله, مقاصدك في السعي لإسعاده, خوفك أن يمرض, هلعك أن يضل, حدبك أن يتعلم, سعيك أن يأكل فلا يجوع, أن يشرب فلا يعطش, أن يسعد ولا يشقى, أن ينجح ولا يفشل, أن يصيب ولا يخطئ, أن يعلو ولا يسقط, أن يكون ذا خلق, وفكر , وعلم, فلا يجهل, ولا يتوه, ولا يفسد..
كل هذا رحمة من نفحات رحمة بثها شعاع الله من رحمته في جوفكَ, هكذا تفعل أمكَ, وأبوكَ..
هكذا يتآلف الكون بجزيئاته بشراً, وحيواناً, ودواباً, وسابحاً, وطائراً, وماشياً, وزاحفاً, تتراحم كلها غريزة من صُنع الرحمن, وطبيعة فيك من مشيئته تعالى في خلْقِك..
أنتَ وحدك الإنسان ذو العقل, من تدرك حين تفكر هذه الحزمة من شعاع الرحمة من أين نبتت, وكيف تمتد ؟..
فرحمتك بابنكَ, حبل روحاني لا ينقطع عن وشيجه فيمن لك, حين تصل أهلك, وإخوتك, وقرباك, وجيرانك, خصه الله تعالى بعنايته ورضاه,..
حدَّ حدوده, وأبان قيوده , من قطعها يقطعه, ومن يصلها يصله تعالى..
وغاية الرجاء الوصل بالله تعالى, المكسب والنجاة, السعادة والبقاء..
تلك الرحمة المثلى, والطاعة المُقْتفاة..
آثارها تمتد, تورف وتنوف, تتجذّر وتنمو..
ومن ثم تظلل حين يزمهر كربٌ, أو تحل هموم, بمثل ما تُزهر حين يعم فرح, وتموج سعادة..!!
تماماً كتلك التي تورق في محضنك بأبنائك يا بني, وتزيد بما ميّزها الله..
فما أعظم الصلة بحبل الله يا بني, وما أخيب انقطاعها..
حين يكون وصلها الرضا والجنان, وخاتمتها العفو والغفران؟!
في رمضان تتجلى حزم الرحمة بإشعاعاتها, وتكتنف النفوس ببردها وجمالها
عذبة الانسياب, كما الفرات!!..