فضل بن سعد البوعينين
لسنوات طويلة؛ تراخت فيها دول الغرب عن مكافحة الإرهاب وتجفيف منابع تمويله تحقيقًا لأهداف إستراتيجية ومخططات وضعت بعناية لتفكيك الدول العربية؛ والإضرار بدول الخليج وفي مقدمها السعودية. لم تكن التنظيمات الإرهابية التي خلقت ومنها داعش، والنصرة وغيرهما من تنظيمات نبتت كالفطر في الدول العربية؛ أو تلك التي أسهم التمويل في تعزيز قدراتها كحزب الله وجماعة الحوثي قادرين على تحقيق أهدافهم الإجرامية والاستمرار في عملياتهم الإرهابية لولا استدامة التمويل وضخامته. غضت الولايات المتحدة الأمريكية النظر عن التدفقات المالية القذرة، وكذلك فعلت دول الغرب الأخرى؛ فالإرهاب كان محصورًا في دول الشرق الأوسط ويصعب تمدده إلى دول الغرب الآمنة. تمدد العمليات الإرهابية إلى العمق الأوروبي ربما أعاد النظر في السياسات الاستخباراتية المضرة بأمن الدول الأوروبية؛ إضافة إلى تغير الرئاسة الأمريكية التي سيكون لها أكبر الأثر في فضح ممولي الإرهاب وداعميه.
أحدثت عملية باريس الإرهابية تغييرًا جذريًا في تعاطي دول أوروبا مع ملف الإرهاب؛ وعمليات مكافحته؛ ورؤيتها تجاه منظمات الإرهاب المتغلغلة في دول الشرق الأوسط؛ وجعلتها أكثر وعيًا بمخاطرها؛ وعملياتها المنظمة التي لا يمكن محاصرتها في نطاق محدود؛ أو توجيهها لتحقيق أهداف إستراتيجية دون التعرض لعملياتها المدمرة.
بعد أيام معدودات من هجمات باريس الإرهابية؛ طالب الرئيس الفرنسي الأسبق «فرنسوا هولاند»؛ بتشديد الرقابة على التحويلات المالية لتجفيف منابع تمويل الإرهاب وكشف مموليه.
وعلى الجانب الآخر أدى نحر تنظيم داعش، للصحافي الأمريكي جيمس فولي، إلى قلب الطاولة على رأس الاستخبارات الصهيوأمريكية، وبعض دول المنطقة وَجَرَّهُم إلى دائرة الاتهام. تسرب الإرهاب إلى دول الغرب الآمنة؛ وبدأت التنظيمات الإرهابية في تنفيذ عمليات نوعية في بريطانيا وباريس وباقي دول أوروبا؛ وتهديد المصالح الأمريكية ما فتح الباب واسعًا أمام الانتقادات والمساءلات الرسمية؛ والتساؤلات حول من يمول جماعات الإرهاب في المنطقة.
ضابط الاستخبارات البريطاني المتقاعد؛ تشارلز شويبردج؛ اتهم في تصريحات تلفزيونية؛ بريطانيا وأمريكا بالمساعدة في تمويل الجماعات الإسلامية المسلحة لقلب أنظمة عربية وفق أجندتهما السياسية الخارجية؛ وقال: إن «وكالة المخابرات الأمريكية «سي.آي.آيه» والاستخبارات البريطانية دفعتا دولاً إلى تمويل وتسليح تنظيمات مسلحة في مقدمتها تنظيم «داعش». شويبردج اتهم الاستخبارات الأمريكية والبريطانية صراحة بـ«صناعة الإرهاب في المنطقة».
كما أعلن وزير المال الاشتراكي الديموقراطي الألماني أن ذاك؛ «سيغمار غابريال» أن الأسرة الدولية أمام «جدل حول الجهة التي مولت، في الماضي، وتمول وتسلح الآن داعش». وزير المساعدة الإنمائية «غيرد مولر» تساءل عن مصادر تمويل «داعش» بقوله: «من الذي يمول هذه القوى؟.. إنني أفكر في دولة قطر».
الحقيقة غير المعلنة؛ أن الاستخبارات الغربية نجحت في خلق التنظيمات الإرهابية لأهداف إستراتيجية؛ وأسهمت في تمويلها بطرق غير مباشرة؛ وتوفير الدعم اللوجستي والإعلامي لها لتتمكن من تحقيق الأهداف المرسومة؛ إلا أن تغير الرئاسة الأمريكية؛ وتغلغل الجماعات الإرهابية في أوروبا وتنفيذها عمليات دامية أسهم في مراجعة المواقف السابقة؛ ومعالجتها لخفض المخاطر؛ أو ربما تصفية حسابات سياسية من خلال إعادة هيكلة الإستراتيجيات الأمنية.
دخول الرئيس «ترمب» ربما أعاد تشكيل إستراتيجيات مكافحة الإرهاب؛ وتجفيف منابع تمويله؛ وملاحقة المنخرطين فيه؛ وهذا ما يمكن ملاحظته في الإعلام الغربي الذي تحول بشكل مفاجئ؛ وبدأ في مهاجمة ذوي الحصانة في عهد الرئيس السابق «أوباما».
مجلة «نيوزويك» الأمريكية نشرت تقريرًا حذرت فيه من خطورة وجود قاعدة العديد الأمريكية في قطر وقالت: «إنه يعطي إشارة تطمين للدوحة بالاستمرار في ممارستها في مساندة الإرهاب»
يبدو أن ملفات تمويل الإرهاب المغلقة ستفتح؛ وسيتم توجيه اتهامات مباشرة بتمويل المنظمات الإرهابية؛ وهي التهمة الأكثر خطورة على الدول والشخصيات الاعتبارية. قد يفاجأ المجتمع الدولي بمصادر التمويل التي كنا نكتب عنها تصريحًا وتلميحًا دون أن يكترث بها أحد. ستتوارى الشخصيات الاستخباراتية الآمرة والموجهة عن الأنظار؛ وستظهر أسماء الدول والشخصيات المنفذة للأوامر الاستخباراتية التي فرضت تمويل المنظمات الإرهابية ومنها: القاعدة، داعش، النصرة، حزب الله، الحوثيون وباقي التنظيمات الهامشية الأخرى.
تمويل الإرهاب من الجرائم الدولية العظمى التي لا تسقط بالتقادم؛ ولا يمكن إخفاؤها مهما حاولت الأجهزة الاستخباراتية ذلك. بل ربما استغل بطريقة بشعة للأضرار بحلفاء الأمس بعد أن انتفت الحاجة إليهم!؛ وهو ما أتوقع حدوثه.
أختم بما حذرت منه عام 2014؛ في مقالتي المنشورة في الجزيرة؛ والمعنونة بـ «من يمول داعش؟» التي جاء فيها: « تمويل الإرهاب من الجرائم الدولية العظمى، وغض الاستخبارات الغربية النظر عن الدول المنخرطة فيها اليوم، لا يعني ضمان تسترها مستقبلاً. عمل الاستخبارات القذر يجعلها تستغل الوسائل المتاحة، القانونية وغير القانونية، لتحقيق أهدافها، إلا أنها تُلصق الوسائل غير القانونية بالجهات الدولية التي ساعدتها في تفيذ خططها الاستخباراتية. الرهان على الدول الغربية واستخباراتها، رهان خاسر ومدمر، إلا أن المقامرين بمستقبلهم ومستقبل دولهم وشعوبهم ينصاعون دائمًا لنزواتهم التي تعمي بصائرهم عن مآلات الأمور، ولا يستيقظون إلا بعد أن تطولهم نيران الإرهاب المُحرقة». وهذا ما نشهد بداياته اليوم. وصدق الله القائل «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».