د.عبدالله مناع
فيما يشبه المعجزات السياسية الكبرى تمكنت عاصمة المملكة (الرياض) من عقد ثلاث قمم سياسية متعددة الأطراف في ثمانٍ وأربعين ساعة.. أو في يومي العشرين والحادي والعشرين من الشهر الجاري (مايو)، وفي وطن عربي.. كان يتهيب في الستينات والسبعينات من القرن الماضي «الدعوة» إلى قمة عربية مخافة الاعتراض على مكان انعقادها!! وهو ما جعل (القاهرة) و(الرباط) تتصدران مواقع انعقاد معظم القمم العربية فـ(الإسلامية) في تلك المرحلة التاريخية.. ولكن هذا الوطن العربي.. صاحب الخبرة المحدودة في عقد القمم العربية - استطاع عقد ثلاث قمم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز: قمة سعودية أمريكية، وقمة خليجية أمريكية، وقمة عربية إسلامية أمريكية - في ثمان وأربعين ساعة.. وهو إنجاز سياسي وإداري يبلغ حد التفرد بين عواصم العالمين العربي والإسلامي، يحسب - دون شك - لطواقم المسؤولين والإداريين ولكبار الموظفين وصغارهم في الديوان الملكي، وفي وزارة الخارجية، وفي إدارة المراسم الملكية.. الذين استطاعوا استقبال هذه الأعداد من الملوك ورؤساء الحكومات والوفود المرافقة لهم في هذا الوقت القياسي، وأن يديروا اجتماعات القمم الثلاث بتلك الكفاءة النادرة، التي كانت موضع تقدير وإكبار المشاركين في القمم الثلاث.. إلى حد الإجماع على وصفها بـ(الرائعة).
* * *
كان طبيعياً.. أن تكون (أولى) القمم هي القمة (السعودية الأمريكية).. التي بدأت أولى جلساتها بعيد وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والوفد المرافق له من الرسميين ورجال الأعمال.. ظهر السبت - العشرين من شهر مايو -، حيث بدأت الجلسة بـ(توقيع) الطرفين -السعودي والأمريكي- معاً على (إعلان الرؤية الاستراتيجية المشتركة بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية)، ليعقبه التوقيع على أربع اتفاقيات في مجال الصناعات العسكرية، واتفاقيتين في مجال تصنيع المنتجات عالية الجودة.. إلى جانب شراكة لتصنيع طائرات (بلاك هوك) العمودية، وتبادل اتفاقيات في مجال الاستثمارات الصحية لبناء وتشغيل عدد من المستشفيات.. إلى جانب استثمارات بتروكيمياوية، حيث تم تبادل اتفاقيتين لإنشاء مصنع لـ(الإيثيلين) في الولايات المتحدة الأمريكية.. إلى جانب تحديث وتطوير القوات المسلحة بالقدرات الدفاعية، وإيجاد فرص استثمارية بين المملكة وأمريكا تفوق قيمتها (280 مليار دولار)..!
كانت القمة السعودية الأمريكية.. قمة اقتصادية بـ(كاملها)، وقد أنجز خلالها الرئيس ترامب ما لم ينجزه أي من الرؤساء الأمريكيين السابقين، وليس من شك في أن (رؤية 2030) التي طرحتها المملكة لمستقبلها الاقتصادي.. قد ساعدته على تحقيق هذا الإنجاز الكبير والمتوقع أمريكياً.. من رئيس أمريكي بكل هذه الخلفية التجارية والاقتصادية والعقارية العريضة كالرئيس (دونالد ترامب)..!!
* * *
كما كان طبيعياً ومنطقياً.. أن تكون «القمة الثانية» هي: قمة دول مجلس التعاون الخليجية العربية والولايات المتحدة الأمريكية.. والتي كرست جهودها من أجل الوصول مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتفاق تاريخي.. ينشأ بموجبه أول (مركز عالمي لمكافحة الفكر المتطرف) الذي يشكل الجذور الحقيقية للإرهاب، فالعالم لم ينس بعد حملة الرئيس دونالد ترامب الانتخابية.. في (التصدي) للإرهاب، وتعهده بمحاربة (داعش).
فإذا كان صحيحاً أن (السياسة) غابت عن القمة الأولى - وهو ما يؤخذ عليها - وحل محلها (الاقتصاد).. فإنها حضرت في القمة (الخليجية الأمريكية) من خلال المشاركة الأمريكية في إقامة هذا (المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف) بل وترؤسه.. وهو ما سيحسب في النهاية لـ(الخليجيين) وبراعتهم رغم ما يقال عنهم وعن بساطتهم السياسية!! فـ(محاربة) داعش واستئصال شأفتها، لن يتحقق بـ(الوعود)، أو التهديدات.. كتلك التي كان يطلقها الرئيس ترامب طوال حملته.. ولكنها تتحقق بـ(العمل) المتواصل والدؤوب.. منطلقاً من هذا (المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف)..!
* * *
على أي حال.. كانت القمة الثالثة وهي (القمة العربية الإسلامية الأمريكية).. هي أهم القمم سياسياً، فقد جمعت ولأول مرة.. بين الأطراف الفاعلة على المسرح السياسي والمتباعدة في ذات الوقت سياسياً.. أو ربما المتناقضة في مواقفها من القضايا السياسية المطروحة، وقد جرت آلية العمل فيها رغم قصر الوقت.. وضيقه.. بذات الآلية التي تجري بها القمم السياسية المحورية الكبرى على مستوى العالم.. فقد تحدث فيها كبار القادة المشاركين في هذه القمة من الملوك والرؤساء وممثلي الدول العربية والإسلامية.. الذين بلغ عددهم خمساً وخمسين دولة عربية وإسلامية.
ونظراً لكثرة أعداد المتحدثين.. فإنني سأقف عند بعضهم.. وعند أهم ما قالوه.. بداية بـ(خطاب) الرئيس دونالد ترامب.. الذي أعاد فيه تقديم نفسه للعالم كـ(رئيس) لأكبر دولة في العالم.. بصورة مسؤولة مغايرة عن تلك الصورة التي ظهر بها خلال حملته الانتخابية أو المائة يوم الأولى من وجوده في البيت الأبيض.. إن كان في دعوته لإقامة سور أسمنتي يفصل بين بلده والمكسيك.. أو إن كان في قراره بمنع دخول مواطني سبع دول إسلامية من الدخول إلى الولايات المتحدة.. أو غيرها من القرارات الانفعالية التي اتخذها في أيامه الأولى في البيت الأبيض.
فقد بدأ خطابه.. بشكر خادم الحرمين الشريفين على دعوته لهذه القمة و(على الضيافة التي لا مثيل لها، التي شهدناها منذ لحظة وصولنا)، كما قال في افتتاح خطابه، ليكشف عن أسباب اختياره لـ(المملكة) لتكون أول بلد يزوره خارج الولايات المتحدة.. عندما قال بلغة بالغة النعومة والعذوبة: (إنني أقف أمامكم ممثلاً للشعب الأمريكي، لأنقل لكم رسالة أمل وصداقة وحب.. ولهذا السبب اخترت أن تكون أول زيارة خارج بلادي إلى قلب العالم الإسلامي.. إلى المملكة العربية السعودية راعية الحرمين الشريفين وقبلة العالم الإسلامي).
وبعد أن تحدث عن الاتفاقيات الاقتصادية التي تم إبرامها مع المملكة في القمة الأولى والتي بلغ إجمالي قيمتها (400 مليار دولار) كما ذكر نصاً، أشاد بـ(إقامة مركز عالمي جديد لمكافحة التطرف والأيديولوجيا المتطرفة).. وهو يقول: (اليوم نرسم التاريخ من جديد.. من هذا المكان بالذات في الجزء المركزي للعالم الإسلامي).. كما أشاد بـ(الأردنيين) وما يقومون به من أعمال رائعة في سوريا والعراق، وهو يشيد بـ(المملكة) وما تقوم به في هذا التحالف العربي من أعمال (قوية ضد نشطاء الحوثيين في اليمن).
وإذا كانت شجاعة الرئيس ترامب حملته على توصيف (إيران) بأنها المسؤولة عن كثير من (الزعزعة في المنطقة).. إلاّ أنّ شجاعته خانته في الإشارة لـ(حل الدولتين) الذي انتهى إليه العالم أجمع لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.. رغم أن محطته بعد مغادرته المملكة كانت لـ(إسرائيل) ولأراضي السلطة الفلسطينية في رام الله وبيت لحم.
إلا أن خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.. الذي كان واحداً من أهم خطابات (القمة الثالثة) وأدقها لغة وأكثرها واقعية، إذ عبر عن سعادته بـ(تجديد الشراكة بين الدول العربية والإسلامية والولايات المتحدة الأمريكية.. قاطعاً بذلك الطريق على أوهام دعاة صراع الحضارات، الذين لا يتصورون العلاقة بين الشعوب إلا كصراع يقضي فيه طرف على الآخر.. ويعجزون عن إدراك المغزى الحقيقي لتنوع الحضارات والثقافات، وما ينتجه ذلك من إثراء للحياة وللتجربة الإنسانية من خلال إعلاء قيم التعاون والتسامح وقبول الآخر، واحترام حقه في الاختلاف)، و(أن مواجهة خطر الإرهاب واستئصاله من جذوره.. تتطلب إلى جانب الإجراءات الأمنية والعسكرية.. مقاربة شاملة تتضمن الأبعاد السياسية والأيديولوجية والتنموية، فـ»الحديث» عن التصدي للإرهاب على نحو شامل.. يعني مواجهة جميع التنظيمات الإرهابية دون تمييز، فلا مجال لاختزال المواجهة في تنظيم أو اثنين.. فالتنظيمات الإرهابية تنشط عبر شبكة سرطانية.. تجمعها روابط متعددة في معظم أنحاء العالم).. منتهياً إلى القول: بـ(أن جهودنا في مكافحة الإرهاب، والقضاء عليه لا يمكن أن يكتب لها النجاح وتصبح واقعاً ملموساً.. إلا من خلال تسوية القضية الفلسطينية عن طريق حل عادل وشامل ونهائي على أساس مبدأ حل الدولتين ومرجعيات الشرعية الدولية ذات الصلة.. بما يوفر واقعاً جديداً لكافة شعوب المنطقة.. تنعم فيه بالازدهار والسلام.. فضلاً عن هدم أحد الأسانيد التي اعتمد عليها الإرهاب.. في تبرير جرائمه البشعة)، وهو ما سبق به خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في كلمته وكرره الملك «عبد الله بن الحسين» ملك الأردن..
* * *
لتنتهي قمة القمم في موعدها.. وينصرف حضورها كل إلى بلده.. وتبقى الآمال معلقة على نتائجها في قادم الأيام.