المفهوم صُورة ذهنية تتشكّل لدى أفراد المجتمع عن موضوع مادي أو معنوي، ويتقلبُ فيها حال المفهوم بين أطوارٍ مُختلفة ولادةً وانتشاراً وأُفولاً، وحتى يصل إلى درجة الوضوح فإن هناك فاصلاً لازماً من الجهد والوقت لتجاوز الغموض وتحقيق المزيد من التمييز والتحديد.
إضافة إلى ذلك فإن وجود ممارسات وتطبيقات للمفهوم تُضاف للتجربة الإنسانية هي سبيلٌ لنقله من التجريد إلى الملموس ليكون إضافة وتكريساً للمفهوم في الشعور والوجدان.
وحتى لا يسري على الرؤية ومضامينها ناموس دورة حياة المفاهيم المستوردة إلى مجتمعاتنا التي نتلقفها كطيور مهاجرة تُحلّق في فضائنا حيناً من الزمن ونعيش معها وهم الخصب ثم ترحل لتتركنا نعيش حقيقة الجدب، فإننا بحاجة إلى بناء فكرٍ مجتمعي يتجاوز تقنيات الرؤية إلى الغوص في مضامينها للخروج بأفكار يمكن أن تكون منصة يتم الانطلاق منها لصياغة فكر للرؤية تكون غايته ومنتهاه تحديد علاقة الإنسان بهذه الرؤية.
وقبل المضي قُدماً في العرض عن ذلك، فهل لنا أن نلتفت للوراء لنتأمل حول ما بنيناه من علاقة مع مفاهيم عشنا معها وعاشت معنا ردحا من الزمن، فالكثير منا لا بد أن قد سمع أو قرأ أو تعامل يوماً ما مع عدد من المفاهيم المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها، ولا بد أن القلة قد تعامل مع تطبيقاتها، وفي رحلة الإبحار هذه نجد أننا قد ركبنا سفينا إثر سفين ؛ فيوماً ما كان «النهوض بالمرافق العامة»، ثم استحال إلى «التنمية وخططها» حتى انتهى بنا الأمر إلى «الاستراتيجيات» و»المبادرات» و»الحوكمة»...
وبعيداً عن الحديث عن المضامين التقنية لهذه المفاهيم، فإن المستوعب لحركة التاريخ يُمكن أن ينظر إليها على أنها كانت نوافذ فُتحت بُرهةً من الزمن ثم أُغلقت وأُتيح للناس من خلالها رسم صورة حول واقعهم ومستقبلهم، وكل نافذة كان لها رسمٌ ووسمٌ يختلف عن الأخرى.
ولأن للمفهوم دورا وظيفيا في بناء الإنسان وتنمية وعيه وإدراكه وتغيير حركته في الحياة، فيمكن القول بوجود تفاوت في أثر هذه المفاهيم من حيث تجذرها في الوعي الجمعي أو تلاشيها كهشيم تذروه الرياح، وبإجمال فإن الخلوص إلى عدم وجود أثر كبير في وعي الناس وحركتهم ناتج عن أثر هذه المفاهيم قد لا يجانبه الصواب، بل إن المجتمعات تعيش حال انفصام معها، لأنها لم تعش استيعاباً للفكر المؤسس لهذه المفاهيم يؤدي إلى إحداث قلق للفرد حول نمط معيشته ومستقبله تمهيدا لتغييره، كما لم تُحدث عُمقاً في الشعور يستدعي تغيير طريقة التفكير ونمط التعاطي مع الحياة.
وحتى تسير الرؤية في مسار يتجاوز ما حدث للمفاهيم الاُخرى من عثرات، فإن الأمر يتطلب الوصول لأذهان الناس، والعمل على صياغة تصور مختلف يتجاوز محددات الأدوات الإعلامية ووسائط التواصل الاجتماعي لخلق حياة مستدامة للمفهوم في الشعور والوجدان لكل فرد من أفراد المجتمع من خلال عمل حرفي مُمُنهج.
فالمحاور التي انطلقت منها الرؤية (مجتمع حيوي، اقتصاد مزدهر ، ووطن طموح)، بحاجة إلى أن تتحول إلى قصص نجاح لنقل المفهوم من تجريدٍ إلى واقعٍ يراهُ المواطن ماثلاً أمامهُ في ممارسة العمل الحكومي وفي تعاطي المسؤول معهُ لغةً وأداءً، وفي فرص عملٍ تفتحُ أمامه أبواب العيش الكريم، وفي وثباتٍ اقتصاديةٍ لتعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني أمام الاقتصاديات الأُخرى، ويجب أن لا يحول تحقيق الأهداف على المدى الطويل عن تحقيق نجاحات سريعة (quick wins)على المدى القصير، حيث إن مضي الوقت دون ذلك سيعمل على خفوت المفهوم في الشعور وقد يُلقي بظلال سلبية حوله.
وفي مسار آخر يجب أن يتم إعادة تنشئة المجتمع على منظومة قيم أُخرى يكون «العمل» و»التعليم» و»الاعتماد على النفس» في أعلى الهرم من هذه القيم، والسعي الدؤوب لتوجيه الجهود لتعزيزها، والتعامل معها وغيرها من القيم ذات العلاقة كروافد تُغذي فكر الرؤية والأُسس التي ينطلق منها، وأن يتم إعادة صياغة ممارسات العمل بما يساعد على ترسيخ هذه القيم سواءً في آليات التعليم أو أنظمة العمل.
- سعد بن عبدالعزيز الجنوبي