د. سلطان سعد القحطاني
الرواية الفنية:
كانت نهاية العقد السادس وبداية العقد السابع نقطة تحول في الرواية في المملكة، ولم يكن ذلك قد جاء من فراغ؛ فالكاتبان حامد دمنهوري (1922 - 1965) وإبراهيم الناصر الحميدان قد رجعا للتو من خارج المملكة، ولم يكونا الوحيدين اللذين عادا، لكنهما موهوبان أولاً، ومطلعان على تقنية الرواية الحديثة ثانيًا، وكانا متأثرين بكتاب الرواية العربية في مصر والعراق. كانت عودة حامد دمنهوري من مصر وهو يحمل فكرًا وتقنية جديدة للرواية التي قرأها في مصر وقلد كتابها نافذة على تغيير وجه الرواية من التعليمية إلى الفنية، بما تحمل في ذلك الزمن من رومانسيات، تعتبر لب المضمون القصصي، لكن المعول على ذلك ليس هذا فقط، بل البناء الفني الذي فتح أفقًا جديدًا للرواية، بصرف النظر عن تأثره بالكاتب محمد حسين هيكل في روايته (زينب) 1919، من حيث المضمون (14)؛ إذ أصدر الدمنهوري روايته (ثمن التضحية) 1959. وقد أغراه نجاح تلك التجربة إلى إنتاج رواية ثانية بعنوان (ومرت الأيام) 1963، كانت أدنى مستوى من الأولى؛ ولذلك لم يكن التجريب ناجحًا في أعمال الدمنهوري كما كان نجاحه في الأعمال الإدارية والتربوية التي قام بها (15). ولا نختلف على فنية روايته الأولى، التي أقر الدارسون والنقاد بنجاحها وترجمتها إلى بعض لغات العالم. ولا نختلف على أنها فتحت نافذة معرفية بفن الرواية عن غيرها من فنون السرد الأدبي، لكن تطوره الفني لم يكن في مسار التجريب الطبيعي. وقد نلتمس له العذر بوفاته المبكرة دون أن يواصل أعماله الأخرى. بينما كانت محاولة إبراهيم الناصر الحميدان (1933 -2011) في مجال الرواية في الحقبة نفسها، وذلك بعد أن أصدر مجموعتين رائعتين في القصة القصيرة، تزامن إصدارهما مع الرواية، بيد أنهما كُتبتا قبل كتابة الرواية (أمهاتنا والنضال، وأرض بلا مطر) 1960، ثم أصدر روايته الأولى (ثقب في رداء الليل) 1961، وكانت متواضعة في مسيرته السردية. وكان الناصر - رحمه الله - مهمومًا بالريف والمدينة فيما يخص القيم والأخلاق بين هذين العالمين(16). ويتوقف الناصر عن إصدار الرواية لمدة تسع سنين، يراجع فيها حساباته من خلال العمل الأول، ويتابع الأفلام الروائية والقراءة والملاحظات اليومية للمجتمع والخدمات الطبية والإدارية والتعليمية، وغيرها من الشؤون العامة، ليصدر في عام 1969 عمله ذا التجريب العالي والتقنية الروائية والحبكة المحكمة (Plot) بعنوان (سفينة الموتى) اتي تناولها الدارسون للرواية كتحول نحو رواية فنية، وهي تحكي كل ما ذكرناه من مشاكل؛ ليأخذ الجزاء عليها بالسجن والمصادرة، وأُعيد طبعها بعنوان جديد؛ وذلك تفاديًا للعنوان الممنوع(17). ويعتبر الناصر والدمنهوري مدرسة لجيل الروائيين الذين ظهروا من بعدهما، لكن الإتقان الفني لم يكن على المستوى الذي ظهرا به في بداية العقد السابع من القرن العشرين. وتوفي الأول، وبقي الثاني يواصل مسيرته في عالم السرد والمقالة الأدبية، وأصدر ثماني روايات، وست مجموعات قصصية حتى وفاته، كل رواية أو مجموعة تمثل الحقبة الزمنية التي ظهرت فيها. وكان من أعظم تلك الروايات روايته الشهيرة (غيوم الخريف) 1988، التي عالج فيها نتائج الطفرة المادية في منطقة الخليج، وما كان يمارسه من حصلوا على الثروة بدون علم ولا تجربة.
ونختم عن إبراهيم الناصر، الذي أردنا أن نعطي له بعض المساحة، نظرًا لموقعه من تطور السرد على مدى خمسة عقود، لم يتوقف يومًا واحدًا عن القراءة أو الكتابة ومتابعة الأدب العالمي في الثقافة بشكل عام، والسرد بشكل خاص، خاصة أعمال الكتاب الروس المترجمة، وبالأخص إعجابه بمكسيم جوركي، وتشيكوف، وغيرهما من المترجمات الأدبية.
لم تكن هذه الفترة منتجة للرواية بمصطلحها الحقيقي، لكن اللافت للنظر أنها فترة مخاض للقصة، والرواية جزء من القصة بالمفهوم العام، لكنها ليست الرواية بمفهومها العلمي الحديث، الذي ظهر عند الكاتبين المذكورين آنفًا. وبما أن السارد والمثقف - بوجه عام - التفت إلى هذا النوع الذي لم يلتفت إليه الأدب العربي في زمن التقليدية فإن هذه خطوة أولى في سبيل ظهور الرواية، وهذا إرهاص لها في البدايات، مع وجود العوامل الأساسية في ظهور السرد وإعلانه ونشره(18) وتداوله على المستوى النخبوي، حتى وإن كان ذلك السرد سردًا ذاتيًّا في اتجاه واحد، يخلو من عناصر البناء الروائي بمعناه العلمي. ولا نقول إن هذا الأسلوب قد ولى وتخلص السارد منه؛ فلا يزال موجودًا في زمن ازدهار الفن الروائي في العالم العربي، ابتداء من تأثير الكتَّاب العرب على الرواية الحديثة، كالطيب صالح، ونجيب محفوظ، ويوسف السباعي، والطاهر بن جلون، والطاهر وطار، وغيرهم(19) ممن كتبوا الرواية على فن مصطلحها الحقيقي وتقنياتها الغربية، ووظفوا فيها مصادر المعرفة توظيفًا فنيًّا. ولعل هذه المرحلة التي بدأت فيها الرواية على النمط القديم لتعريف الرواية والراوي هي المرحلة الأهم في عمر الرواية العربية، والسعودية - على وجه الخصوص - نظرًا لاتساع رقعتها الجغرافية، وتعدد مصادر ثقافتها، وعدم وجود نقد أكاديمي متخصص، يعلي من قيمة الرواية، ويبين أصول بنائها معرفيًّا. وهذه وجهة نظري الخاصة التي لم يذكرها الباحثون من قبل، وأنا واحد منهم، لكني اكتشفت أهميتها فيما بعد لسببين اثنين، لا ثالث لهما: الأول: توقف بعض الكتّاب عند عمل واحد لم يشفعه بثانٍ يستطيع النقد الأدبي أن يقيمه من خلال تطوره الزمني ونضجه الفني. والثاني: دخول العنصر النسائي في عملية السرد كنتيجة للعوامل التي يقوم السرد من خلالها (سيأتي ذكرها)؛ فبجانب الرواية الفنية ظهرت روايات سردية، تفتقر إلى العنصر الفني في بناء الرواية، وهذا ذنب النقد المزيف الذي لا يعرف كاتبه ما هي الرواية، وليس ذنب كتابها؛ والدليل على ذلك أن تلك الأعمال التي ظهرت لم يذكر الكاتب أنها رواية، ومن سماها رواية هو النقد والدراسات غير المسؤولة، وأصحابها غير متخصصين في فن الرواية، فقدمت سميرة خاشقجي (سميرة بنت الجزيرة 1939 -1986) ثمانية أعمال على نمط واحد، تدور أحداثها خارج البيئة المحلية، كان أولها بعنوان (ودعت آمالي) 1958، صدرت في بيرت، وتتالت أعمالها حتى عام 1978(20)، وهي أعمال عاطفية، فيها كثير من المغامرات على رأي بعض الباحثين في الفن القصصي(21)، كما ظهرت محاولة لكتابة الرواية التاريخية التي أراد كاتبها أن يقلد فيها منهج جرجي زيدان في روايات الإسلام، وكانت تصدر منجمة في مجلة المنهل السعودية، ثم صدرت في كتاب بعنوان (أمير الحب)، وتعتبر أول إنتاج في هذا المجال من الرواية في السعودية(22). ومن باب أولى أن يكون هذا الإرهاص للرواية بوجود القصة الطويلة قد لفت النظر لمراجعة الاعتراف بفن الرواية، كمحاولات أولى، على يد هند صالح باغفار، في روايتها (البراءة المفقودة)، وهدى الرشيد في روايتها (غدًا سيكون الخميس)، وعائشة زاهر أحمد (بسمة من بحيرات الدموع)، وعبد الله جمعان في روايته (القصاص)، وحمزة غالب أبو الفرج في روايته (الشياطين الحمر).. ونجد الكاتبات الثلاث لم يكررن محاولاتهن مرة ثانية في فترة التحول(23)، مع أن الكاتبين كررا محاولاتهما بالنمط نفسه دون تطور، وكأن تلك الكاتبات قلن ما عندهن وانتهين. ونجد أن تلك الفترة المتمثلة في ظهور المرأة الكاتبة ثورة في عالم الكتابة الروائية، وإن تجاوزنا في المصطلح(24)؛ لتثبت لمن خلفها أنها قادرة على ممارسة الكتابة الذاتية للتعبير عنها وعن بنات جنسها، مستثمرة تعليمها وثقافتها المكتسبة من دراستها خارج البلاد، واحتكاكها بالثقافة الحديثة، لكن ذلك الكم الخالي - إلى حد ما - من الكيف كان لبنة قوية لخوض التجارب التي لحقت فيما بعد في المرحلة الثالثة، وإن كان النقد العلمي للرواية لم يظهر في هذا الزمن بشكله المعروف اليوم، فإن السارد قد وقف على ضعف تلك الأعمال، واستفاد من الجيد والضعيف على وجه العموم، وصار يراجع ما سيكتبه، وما مدى نجاح تجربته السردية، وقد مضى على السرد خمسون عامًا، تطورت فيها عوامل الرواية الأساسية، من تعليم، وصحافة، وطباعة، ودور للنشر، واهتمام بالرواية في الوسائل الإعلامية، من إذاعة وتلفزة، وأندية أدبية، ونشاط ملحوظ في الندوات والمحاضرات ومتابعات لكل جديد.