د. صالح بن سعد اللحيدان
الجزء الأول:
1 - الوضع: الجعل، يُقال وضعه جعله.
2 - وضع يراد به فعل الشيء على الشيء من باب التركيب، ومنه قوله تعالى (بعضه فوق بعض).
وأصل الوضع أنه من المشترك اللفظي عند عامة أهل العلم الاستقرائي، سواء المؤرخون أو الإخباريون أو علماء الجرح والتعديل وعلماء طبقات أحوال الرواة.
فالوضع عند المؤرخين يراد به الظرف المكاني، وقد يصحبه عندهم الظرف الزماني، وهم يقولون وضعت هذه الأمكنة في وقت كذا، أي في زمان كذا عند الإشارة إلى البلدان والقرى والمدن، والحال كذلك عند أصحاب السير والتراجم، وهو نفسه عند أصحاب معاجم البلدان.
3 - الوضع عند المحدثين وجود كذاب في أصل السند، فيطلقون على هذا الحديث الموضوع، وهذا النوع من الأحاديث خصص له كبار العلماء كتبًا منتشرة، أسموها كتب الموضوعات.
4 - ضعه بمعنى اتركه، وليس من هذا (الضعة)، وهي الحقارة؛ فهذا غير ذاك.
ووضعه جعله وفعله بمعنى الحس والمعنى سواء بسواء.
5 - والموضع المكان المحدد، ولا يقترن هذا بزمان لما قد يكون فيه من اختلاف.
6 - والموضع هكذا مصدر عام مشترك، وإنما يميزه دليل القرينة الحسية أو القرينة المعنوية، والأخيرة تحتاج
إلى عاضد.
7 - وموضع يختلف عن كلمة الموضع؛ فالأولى نكرة تحتاج إلى التعريف ولو بالإضافة؛ فيقال موضع كذا،
فيذهب بهذا التنكير إلى التعريف. أما الموضع فهو معرفة، ويدرك هذا من سياق النص على شيء معين.
8 - وموضع جمع مواضع، مكان وأماكن. ولا يقال محل. وقد أخطأ بعض اللغويين في هذا، وإن كان يدل عليه السياق.
قلت: من هذا الباب أبين بعض ما وقع فيه بعض المعاصرين من المحققين والباحثين الذين يعولون على النقل من كتب الآثار والأخبار والسير دون نظر إلى التقعيد والتأصيل، ودون النظر إلى مناط الأصل الذي لا بد منه في سبيل مقيم.
وأعني هنا السند بسلسلة الرواة الثقاة الذي لا يقوم فيه الأمر إلا عليه، وكنت قد بينت أن منهج المحدثين منذ العهود الأولى إلى اليوم يقبلها منهج التاريخ إذا كان المراد تحقيق الصدق وتحقيق الحق في مكان ما أو موضع ما على سبيل ناهض لا يريم.
فمنهج المحدثين ومنهج المؤرخين عبر القرون لا يختلفون فيه في أن الأصل في تحقيق شيء ما كموضع أو إشارة أنه لا بد أن يكون ذلك صوابًا لئلا يقع الكذب في تحقيق مكان ما أو شخص ما أو رأي ما.
ولا جرم أن الحق أحق أن يتبع، كذلك قال العلي العظيم، ولا شك أن الحقيقة لا معدى من إرادتها مهما كان الأمر على حال تقوم دون نكير.
وقد لمست من كثير من الزملاء من كبار العلماء والمحققين الذين يشرفون على المؤتمرات.. وجدت أن بعضهم لعلهم يقدمون العاطفة في التحقيق والنظر، وهذا وذاك لا شك أنه يقود إلى العجلة لا شعوريًّا، وقد تحفزه العاطفة، فيجزم العالم أو الباحث أو المحقق إنما ذكره هو الصواب، بينما لو عرضناه على الأسانيد وأحوال الرواة وأخضعناه للنقد العلمي الدقيق (علم الجرح والتعديل وأحوال الأسانيد) لوجدنا بونًا شاسعًا
بين الخطأ والصواب والحق والباطل، وبين العالي والنازل.. ما في ذلك شك عندي.
ومن هذا لعلي أجزم أن ما كتبه أخونا عبدالوهاب أبو سليمان وغيره من المعاصرين إنما كتبوا ما كتبوا
من باب حب الخير والسعي إليه، لكنهم تركوا الأسانيد، فلما وقع لهم هذا كانت النتيجة خلاف ما ذهبوا إليه، وهذا ما أوقع طه حسين - رحمه الله - في كتابه في الأدب الجاهلي، وما وقع فيه العقاد - رحمه الله - في كتابه (عن معاوية بن أبي سفيان في الميزان)، وما وقع فيه قبل ذلك ابن شبة وابن زريق والمسعودي والجاحظ، وسواهم من المتقدمين في الخطأ، لعله غير المقصود في المواضع والأماكن والأشخاص، وهو نفسه ما وقع لأحمد أمين في (ضحى الإسلام) و(صدر الإسلام)،
وهو ما وقع فيه كذلك الشيعي الفارسي الأصل (ياسر الحبيب) في بعض ما يذكره ويصر عليه.
وكل ذلك يدل على أن الإسناد من الدين ولولا الإسناد لسارت الركبان بكل حدث وبكل خبر وبكل رأي، فضلاً عن كل قول يقال. وإذا كان العلم أمانة والقضاء أمانة والفتيا أمانة وتحقيق المسالك والممالك أمانة فإن السند هو الذي يصدق هذا أو ينفيه دون نكير من قائل قوله على وضب من ناهض مبين.
ويمكن لمن بحث أو رأى أو حقق أن يرجع على سبيل المثال إلى مثل هذه الأسفار (الكاشف للذهبي) و(تاريخ بغداد للبغدادي) و(الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم و(المنار المنيف) لابن قيم الجوزية، و(درء تعارض النقل و العقل) لابن تيمية، وكذلك يعاد لكتاب (الموضوعات لابن الجوزي)، ومثله صنوه (الموضوعات للشوكاني).