أ.د. حمد بن ناصر الدخيِّل
كانت عيون الأحساء غزيرة دفاقة، وكانت المياه تركد في المزارع مدة طويلة، فَتَأسَُِن، وتتحول الأرض إلى أملاح، وتفقد صلاحها للزراعة، فأنشئ مشروع الري والصرف الذي أسهم في تأهيل أراضي النخيل للإنبات والغرس. ويقال: إن مخزون مياه عيون الأحساء تجمع عبر آلاف السنين منذ العصور الممطرة التي ألمت بالجزيرة العربية، وغذته السيول المنحدرة تحت باطن الأرض من هضبة نجد إلى تلك المخازن الواسعة التي تقع تحت أبعاد مختلفة تحددها مقادير حرارة الماء. ويذكر في هذا الصدد أن أودية المجمعة التي تفضي جميعها إلى وادي المشقر (الوداء قديماً) تسهم في إمداد عيون الأحساء بالماء، وهناك رواية - لعل لها ظلاً من الحقيقة ـ تذكر أن طاسة - وهي لفظة فصيحة، مؤنث الطاس إناء يشرب فيه طبقاً لما في القاموس المحيط - وقعت في روضة الخفيسة التي تفيض إليها سيول أودية المجمعة عبر واديها الكبير المشقر أو الوداء. وتقع الروضة شمال شرقي المجمعة، وتبعد عنها مسافة اثنين وسبعين كيلاً، وتبلغ مساحتها 4× 2= 8 كم2، ويغذيها من الأودية أيضاً وادي دابان، ووادي سدحا وغيرهما. ولهذه الروضة خاصية في ابتلاع السيول مهما غزرت وتتابعت؛ ولذلك سميت بالخفيسة، وهو تصدع الأرض وانهيارها. قال تعالى في سورة القصص: (فخسفنا به وبداره الأرض). وهذه الطاسة أو المَشْرَبة التي وقعت من أحدهم في الروضة رؤيت خارجة من إحدى عيون الأحساء. وأوردت هذه الرواية كما سمعتها تُتَناقل.
ومن المعروف أن الماء يجري في باطن الأرض كما يجري على ظاهرها. فهناك أودية باطنة وظاهرة.
وكما أمدت المجمعة عيون الأحساء بسيولها المتدفقة عبر واديها الفحل (المشقر) وروافده من أودية وتلاع، أمدت الأحساء أيضاً بعدد من المدرسين أدركت منهم ثمانية، في مقدمتهم الشيخ الفاضل محمد بن حسن الدريعي، وبثلة من المختصين في الشؤون الزراعية الذين عملوا في زراعية الأحساء في مشروع الري والصرف الذي افتتحه الملك فيصل ـ رحمه الله ـ كما سيأتي ذكره.
التوجه إلى الأحساء:
تخرجت في كلية اللغة العربية في العام الدراسي 88- 1389هـ. وحينما يتخرج فوجٌ من كلية الشريعة وآخر من كلية اللغة العربية - وهما الكليتان الوحيدتان اللتان يعدان نواة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - تقسِم الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية الطلاب المتخرجين قسمين، قسماً تختاره للتدريس في المعاهد العلمية، والقسم الآخر توجهه إلى وزارة المعارف. والاختيار يتم وَفْق معايير خاصة. كنت أحد المتخرجين الذين اختارتهم الرئاسة العامة للتدريس في المعاهد. وكان اختيار المعهد الذي سأوجه إليه يمثل مدة قلق وانتظار بالغين، فلا أدري إلى أي معهد سأوجه، وليس لدي من أشفع بمكانته عند الرئيس العام أو المدير العام؛ ليختار لي المعهد المناسب كما حدث لكثيرين. وعلى الرغم من أنني أتيت بخطاب توصية من أحد وجهاء المجمعة الشيخ حمد بن عبد الله السناني ـ رحمه الله ـ وجهه إلى الشيخ عبدالعزيز بن عبد الرحمن المسند - رحمه الله - المدير العام للكليات والمعاهد آنذاك؛ لتعييني في معهدها، على الرغم من ذلك بدأ الأمر مغيّباً عني. وحاولت أن أعرف المعهد من أحد المسؤولين في الرئاسة وهو الشيخ عبدالعزيز العيفان - رحمه الله - فلم يصرح لي باسمه رغم إلحاحي، ولكنه ذكر أنه حول المجمعة. وهكذا تم تعييني في معهد الزلفي العلمي. باشرت العمل هناك في 12-07-1389هـ ويوافق يوم الثلاثاء 23-09-1969م. وكنت قد عزمت على مباشرة السفر قبل يومين أو ثلاثة، ولكن صاحب س يارة الأبلاكاش وسائقها (أحمد الخزعل ـ رحمه الله ـ) عدل عن السفر في موعده، فاضطررت أن أنتظر سيارة أخرى (بلاكاش أحمد الحمود) فضاعت مني ثلاثة أيام من مباشرة العمل. كانت الزلفي ـ آنذاك ـ بين القرية والمدينة، محلتين كبيرتين تسميان البلاد والعقدة، يفصل بينهما فضاء من الأرض لم يبن بعد. استأجرت منزلاً كبيراً في البلاد؛ لقربه من المعهد، إذ لم أجد أفضل منه سكنت وحدي وكنت عزباً. وظروف المعيشة كانت جدَّ صعبة. في أثناء الإجازات أعرج على الرئاسة العامة. وأقدم خطابات لنقلي إلى الرياض دون جدوى. اقترح عليّ مدير التفتيش الفني عثمان بن سيار نقلي إلى معهد الأحساء العلمي؛ لأنه في حاجة إلى مدرس، فوافقت بعد تردد؛ لبعد الأحساء عن الرياض، وإن كانت في ذلك الوقت تتمتع بصفات المدينة الكاملة. كنت قد تزوجت في صيف عام 1390هـ وتحديداً مساء الخميس ليلة الجمعة 11-06-1390هـ الموافق 13-08-1970م.