د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
تتأثر لغة كل قوم بعقائدهم، وهذا موضوع واسع، ولكنيّ أريد الإشارة إلى بعض مُثُل نجدها في بناء قواعد الصرف؛ إذ تجد بعض القواعد ينالها قيد لا صلة له بالنظام اللغوي بل هو استجابة لمطلب عقدي، من ذلك وصف بعض الأفعال بالجمود، أي مجيء الفعل في زمن واحد: ماضٍ، أو مضارع، أو أمر، كالفعل (تبارك الله)، قال ناظر الجيش في معرض تعداد الأفعال الجامدة «والثاني: (تبارك) قال الله تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [1-الملك] وقال الله تعالى: {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} [14-المؤمنون] قيل: وهو مشتق من البركة، وهو غير متعدّ»(1)، «لأن الله تبارك في الأزل؛ فلذلك يلزم مثل هذا الفعل الزمن الماضي، ومثله كل فعل يدل على صفة من صفات الله الأزلية، مثل (تقدّس، تنزّه، تعالى، تطهّر، تعاظم)، وهذه الأفعال إنّما تكون جامدة عند إسنادها إلى لفظ الجلالة (الله)؛ فجمودها مؤقت مرهون بالفاعل الذي هي مسندة إليه»(2)، فلك أن تقول: تبارك المكان بوجودكم وسيتبارك المكان بزيارتكم.
ومن ذلك امتناع تثنية أو جمع أسماء الله، قال ابن مالك عن جمع المذكر السالم «فمن المعرب بإعرابه الوارد [بالواو رفعًا وبالياء جرًّا ونصبًا] كذلك من أسماء الله تعالى (ونحن الوارثون) و(وإنا لموسعون) و(فنعم الماهدون) وكذلك أولو وعليون وعالمون وأهلون وأرضون وعشرون وأخواته. فأما أسماء الله تعالى فمعنى الجمعية فيها ممتنع، وما ورد منها بلفظ الجمع فتعظيم يُتوقف فيه على السماع أصلاً، كما يتوقف عليه في غيره من الثناء والحمد، بل التوقف على السماع في هذا أحق، لأن من الناس من أجاز اشتقاق الأسماء من أفعال الله تعالى على وجه يؤمَنُ معه إيهام ما لا يليق بجلاله تبارك وتعالى، ولا أعلم أحدًا يجيز للداعي أن يدعو الله بلفظ الجمع، لأن ذلك يوهم خلاف التوحيد»(3).
والمشهور عند النحويين أن جمع المذكر السالم يجمع عليه علم المذكر وصفة (المذكر العاقل)، ولكن بعضهم عدل من (العاقل) إلى (العالم)(4)، وهو ما أنكره عليهم ابن مالك، قال « ومن شروط هذا الجمع كون المسمى ممن يعقل أو شبيه به، فلا يقال في لاحق اسم فرس لاحقون، ولا في سابق صفة له سابقون، ولا حاجة إلى تنكب التعبير بمن يعقل واستبداله بمن يعلم كما فعل قوم، لأن باعثهم على ذلك قصدهم دخول أسماء الله تعالى فيما يجمع هذا الجمع، والعِلْم مما يخبر به عنه تعالى دون العقل، وباعثهم على ذلك غير مأخوذ به، ولا معول عليه إلا فيما سمع، كقول تعالى {وإنا على ذهاب به لقادرون} فليس لغير الله تعالى أن يجمع اسمًا من أسمائه، إذ لا يُثنى عليه ولا يُخبر عنه إلا بما اختاره لنفسه في كتابه العزيز أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقادرون ونحوه من المعبر به عن الله تعالى من المقصور على السماع، فإذا لم يدع إلى تنكب لفظ العقل داع فهو أولى من العلم، لأنه أدل على المقصود»(5).
والعطف بالواو يجمع بين المتعاطفين، ولذلك كان غريبًا أن يعطف المغسول على الممسوح في قوله تعالى {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} [6- المائدة]، فالأرجل لا تمسح، قال ابن هشام «لما كانَت الأرجل من بَين الْأَعْضَاء الثَّلَاثَة المغسولة تغسل بصب الْمَاء عَلَيْهَا كَانَت مَظنَّة الْإِسْرَاف المذموم شرعًا فعطفت على الْمَمْسُوح لَا لتمسح؛ وَلَكِن لينبه على وجوب الاقتصاد فِي صبّ الْمَاء عَلَيْهَا وَقيل {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فجيء بالغاية إمَاطَة لظن من يظنّ أَنَّهَا ممسوحة لِأَن الْمسْح لم تضرب لَهُ غَايَة فِي الشَّرِيعَة» (6).
وقد يعطل القياس اللغوي لأمر شرعي، فلا يقاس على قول الشاعر:
دَعَوتُ لما نَابَني مِسْوَرَا
فَلَبَّى، فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ
قال الشاطبي «ورُوِي في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (إذا دعا أحدكم أخاه فقال: لَبَّيك. فلا يَقُولَنَّ: لَبَّى يَدَيْكَ. وليقل: أجابَكَ اللهُ بما تُحِبُّ). وهذا مما يُشْعِرُ بأنَّ عادَةَ العَرَبِ إذا دَعَتْ فأُجِيبَتْ بلبَّيكَ أن تقولَ: لَبَّى يَدَيْكَ، فَنَهَى عليه السلامُ عن هذا القولِ وعَوَّض منه كلامًا حَسَنًا، ويُشْعِرُ بهذا أيضا معنى البيت المتقدِّمِ، فعلى هذا ليس بمختصٍّ بالشِّعرِ»(7).
وعلى الرغم من كون لبّي يديك مقيسًا عند العرب منع ابن مالك القياس عليه، قال الشاطبي «وإن سُلِّم أنّه بَلَغَ مبلغَ القياسِ عليه في كلام العرب، فقد يقال: إن الناظم [ابن مالك] لم يعتبره حيث كان الحديث قد نهى عن استعماله، فصار القياس على ما سُمِع ممنوعًا شرعًا؛ ألا تراه قال: (لا يَقُولَنّ لَبَّى يَدَيْكَ)، فهذا معنى المنعِ من القياسِ على ما قيل منه، وهذا من غرائب أحكام العربيَّةِ أن يُمنَعَ من القياس لمانعٍ شرعيِّ، ولكنْ له نظائر كالمنع من تثنية أسماء الله تعالى وجمعها وتصغيرها، وإن كان قياس العربية يقتضي تثنية الأسماء المعربات على الجُمْلة، وكذلك تصغير الأسماء التي سُمِّي بها نَبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلَّم تسليما- فإنه أعظمُ الخَلْقِ عند الله تعالى، فلا يجوزُ تصغيرُ اسمهِ وإن كان لفظًا، لِعظَمِ المدلولِ-عليه السلام- والألفاظ تشرُفُ بِشَرَفِ مدلولها شَرْعًا، وهذا الموضع مما مَنَعَ الشرع من استعماله، وذلك يستلزم مَنْعَ القياس عليه، فمنَعَهُ الناظمُ وسمَّى ما سُمِع منه مخالفًا للمشروع شاذًا، لمساواته للشاذِّ العربِّي الذي لا يقاس عليه، والله أعلم»(8).
ومن الأسماء ما يمنع تصغيره مع قابليته اللفظية للتصغير، قال الشاطبي في تعداد الممنوعات من التصغير «أحدها: ما امتنع تحقيره شرعًا كأسماء الله وأسماء الأنبياء وكتب الله تعالى، وغير ذلك مما هو معظم شرعًا، ولذلك لما أراد سيبويه تصغير (النبيء) قصد عند ذلك ما يقبل التصغير فقال: «كان مسيلمة نُبَيِّئَ سَوْءٍ»، و»كان مسيلمة نُبوَّتُهُ نُبَيِّئَةُ سَوءٍ» وذلك ظاهر»(9).
وأحسب أن هذا مما يجدر بأحد الدارسين أن ينهد إلى جمع ما تفرق منه ودرسه درسًا علميًّا موسعًا.
... ... ...
(1) ناظر الجيش، تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد، 9: 4522- 4523.
(2) أبو أوس إبراهيم الشمسان، دروس في علم الصرف، 1: 49.
(3) ابن مالك، شرح تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، 1: 80-81.
(4) انظر: ابن الأثير، البديع في علم العربية، ص94.
(5) ابن مالك، شرح التسهيل، 1: 77-78.
(6) ابن هشام، مغني اللبيب، ص 896.
(7) الشاطبي، المقاصد الشافية، 4: 63.
(8) الشاطبي، المقاصد الشافية، 4: 65.
(9) الشاطبي، المقاصد الشافية، 7: 270.