كنتُ أعتقد أنه من السهل أن تكتب أمٌّ عن أولادها مثلما تكتب لهم كل حين نصيحة أو خلاصة تجربة، ولكنني اكتشفت أن ترجمة الكم الهائل من شعورك (كأم) لكلمات تجعل قلبك يخفق بين طرقات الذكريات والسنوات الماضية؛ لترسم صورة كانت هي حاضر اليوم ومستقبل الغد بإذن الله.
في حفل تخرُّج ابنتي، وبين فرحتي بصغيرتي وأميرتي وصديقتي وابنتي الكبرى (لمى)، وهذا الكم الهائل من البهاء، أدرك كم هو جميل أن نتشارك الفرح، ونقتسم الضحكات وحتى دموع الفخر. الليلة عادت بي الذاكرة إلى قبل ثمانية عشر عاماً بتسعة أشهر؛ إذ كانت أول نبضة لغيري شعرتُ بها تنبع من داخلي، وأول ركلة أعلنت معها (لمى) وجودها.. حياة أخرى تتكون بداخلك.. إنسان يُخلق في (قرار مكين إلى قدر معلوم)، يشاركك أنفاسك، طعامك وشرابك.. ينتقل معك في مكان ليحيا بك وتحيا له؛ لتردد كل حين (سبحانك ربي ما أعظمك).
الابن البكر هو الأول في كل شيء، بالفرحة، بالتعب، بغموض تكوينه، بتوجسات التجربة الأولى.. هو أول عتبات الأمومة، ونافذة الحياة الجديدة.. يهبك شرف (أم)، ويتوجك به؛ لذلك هو الأول في كل حياتك.. تعيش وتمارس معه كل شيء للمرة الأولى.. قد تتعثر معه، وبعدها تكمل المسير.. المهم أنه أول من سكن حجرات قلبك الأربع.
في حفل تخرجك صغيرتي التي لن تكبر في روحي أبداً تعود بي الذاكرة إلى السهر واللعب معك، ومزاجك المتقلب، وصمتك الذي لم يكن معتادًا عند الأطفال. تعود بي الأيام إلى حيث غضبك من (المشاكسين) الذين لا يصعدون من الدرج الخاص بـ(الزحليقة)، ويقومون بالصعود من الجهة الخاصة بنزولهم..!
كنتِ تشتعلين غضباً، وما زلت من كل عمل مخالف للقوانين، تلك القوانين التي كانت أيضًا تغضبك عندما تريدين التمرد حتى تمارسي السهر إلى العاشرة!
الليلة أسمع وقع خطواتك الصغيرة وهي تسمو في أروقة دار البيان لتحفيظ القرآن، وأنتِ لم تكملي الخامسة من عمرك، تمسكين بيدي عائدَين إلى المنزل، وتحكين لي أن الجميع يقولون (لمو شاطرة).
الليلة يعود صوت معلمتك في الابتدائي وهي تحكي لي عن دهشتها من ثقافتك، ولكن كل هذا تلاشى عندما عرفت أنك قارئة مميزة، ترتاد مكتبة الملك عبدالعزيز للطفل، وتنام وفي حضنها كتاب. الليلة يعود حفل تخرجك من الصف السادس عندما تم تكريمي بالأم المثالية، وطلبوا مني إلقاء كلمة؛ ليكون أول كلامي وآخره (لمى).
تعود بي الذاكرة للمرحلة المتوسطة ورسالتك التي فازت في مسابقة الرسائل التي بدأتها بـ(إلى أمي الغالية)،
إلى ميداليات التفوق وشهادات التكريم، إلى كل دهشة كانت ترتسم على محياك عندما تكتشفين ما حولك.
لمى.. رفيقة أيام صعبة مررتُ بها حينها كانت هي الأم وأنا الابنة، وجدتها بجانبي عندما هزمتني الحياة، ومدت يدها وقالت: انهضي أنت أقوى من دمعة!
حبيبتي.. لا تكفيك كلماتي؛ فالأم تهزمها الحروف عند حب أطفالها..
حلم يا الله حققه لها..
- بدرية الشمري (مسافرة)