د ـ ويبلغ التحيز مدى أكبر مما سبق في كتاب «مكة المكرمة ـ مفردات تراثية اجتماعية في لهجة أهل مكة» عندما يقصد المؤلف بعبارة «أهل مكة»: طبقة معينة من الطبقات الاجتماعية للسكان ؛ وهي الطبقة المتعارف عرفيا لدى قبائل الحجاز بتسمية أهلها : «الحضران»، ولكن المؤلف يقصر تسمية «أهل مكة» عليهم ويتجاهل الطبقة الأخرى مع أنهم أولى بالدخول في التسمية بحكم الأقدمية ! يقول المؤلف: «وعندما يُشار إلى لهجة «أهل مكة» فإنما يُقصد بها لهجة حواضر الحجاز عامة : مكة المكرمة ، جدة ، المدينة ، الطائف» (ص5) ، والقراءة في ثنايا معجمه المذكور تكشف أنه مخصص لمفردات الطبقة المشهورة في العرف العامي بالحضران ! فنجده مثلا يسقط حرف الثاء من معجمه قائلا: «حرف الثاء لا وجود له في لهجة أهل مكة الحضرية ، ويتحول إلى ت أو س تحل محله التاء إذا كانت الكلمة دارجة ومستوطنة (يوم الاتنين ، التار...) ، وتحل السين محل الثاء إذا كانت الكلمة قريبة العهد بالفصحى (أثرياء = أسرياء ، ثانوية = سانوية ..) إلخ» ص 42. فما دام يقصد بمعجمه لهجة طبقة معينة فالواجب منهجيا أن يحدد مراده بدقة بأن يخصص المسمى الطبقي الاجتماعي المراد باسم يخصه ويميزه عن غيره ، لا أن يجعل العنوان ذا دلالة عامة يشترك في مسماه أكثر من طبقة ثم يتفاجأ القارئ في داخل الكتاب أن المؤلف لا يقصد سوى طبقة اجتماعية معينة من سكان مكة ، فهذا لا يُفسَّر إلا بالتحيز الثقافي ، إضافة إلى كونه خطأ منهجيا وتلاعبا بالقارئ !
ويقول في حرف الذال: «حرف الذال لا وجود له عادة في اللهجة المكية الحضرية ، ويتحول الحرف إلى د أو ز» (ص 80) . ويقول عن حرف الظاء : «مثل الثاء ، لا وجود لها في لهجة أهل مكة المكرمة ، وتحل « ظ » أو « ز » المضخمة محلها» ( ص 125 ). فالتحيز الثقافي واضح هنا ، هذا بقطع النظر عن الأخطاء العلمية واللغوية الكثيرة في الكتاب مما ليس هذا محل بيانه ، وعلى سبيل المثال عدم التفريق بين الحرف والصوت ؛ أي ما يسمى في الصوتيات: فونيم وألوفون ؛ فالثاء والذال والظاء موجودة في اللهجة التي يقصدها المؤلف وجودا فونيميا وإن كانت الأصوات التي تمثلها في الفصيح وفي لهجة الطبقة الأخرى (القبيلة) غير موجودة في تلك اللهجة المقصودة لدى المؤلف ، واستُعيض عنها بأصوات أخرى ، فحقيقة الفونيم مرتبطة بالوظيفة التي هي دوره في تكوين معنى المفردة ، ومادامت الوظيفة متحققة بأي صوت من أصوات الفونيم سواء أكان أصيلا أم بديلا فقد تحقق وجود الفونيم ، هذا من وجهة صوتية بحتة بقطع النظر عن التقييم من جهة الفصاحة.
هـ ـ ولم يقتصر هذا التحيز الثقافي على المؤلفات العامة في ثقافة الحجاز ، بل قد تجاوزها إلى بعض المؤلفات الأكاديمية المجازة من هيئات علمية في مؤسسات محترمة ! ففي كتاب «عامية مكة ومدى قربها من الفصحى» ، وهو معجم لغوي ثقافي (د . فتحية عطار ، رسالة دكتوراه في جامعة أم القرى ، نشرتها جامعة الملك فيصل) نجد الباحثة تقول عن الحروف الثلاثة / ث / ، / ذ / ، / ظ / : «هذه الحروف الثلاثة يحرّف أهلُ مكة في لفظها ، فمثلا حرف الذال في بعض الكلمات ينطقون ذالها دالا مثل : ذقن ، ذهب ، يقولون: دِقِن ، ودَهَب ، وبعضهم يقلبون ذالها زايا مثل: ذَنْب وذِكْر ، يقولون: زَنْب وزِكْر ...» (ص 189 هـ 1. وانظر ص 376) ، فعامية مكة في هذا البحث الأكاديمي محتكرة على شريحة واحدة من شرائح المجتمع الحجازي المكي وهي الطبقة المعينة المذكورة آنفا . وقد تكررت لدى المؤلفة عبارة «أهل مكة يقولون» مقصودا بها هذه الطبقة الاجتماعية خاصة دون غيرها من الطبقات الاجتماعية التي هي ـ كما سبق ذكره ـ أولى من غيرها بالدخول في مسمى «أهل مكة» بحكم الأقدمية في الوجود ، وبحكم أن لها الدور الأكبر في تشكيل منظومة الثقافة . (انظر مثلا : 187 ، 190 ـ 195. ومواضع كثيرة مشابهة في سائر المعجم ) .
ومن مظاهر التحيز في هذا الكتاب وصف عامية مكة المسماة في عرف قبائل الحجاز: «اللهجة الحضرية» بأنها «عربية صحيحة» (انظر مثلا: دِبِل = ذبل ، زَنْب = ذنب ، أَتَرِيك = أُرِيتُ ، كَمان = أي زيادة ، 190 ، 192 ، 195 ، 380 ، على التوالي) مقابل وصف ظاهرتَي الكشكشة والكسكسة لدى بعض قبائل مكة بأنها «لغات مذمومة» ! ( ص 379 ) ، مع أنهما لغتان قديمتان من لغات العرب من قبل عصر الاحتجاج ، فإذا كان لابد من وصفها بالذم فالظواهر المستعجمة في عامية مكة المعاصرة أحق بالذم ، فكيف توصف بأنها عربية صحيحة ؟! هذا بلا شك قول خالٍ من الموضوعية بل هو تحيز ثقافي عنصري بيّن !
ومن مظاهر التحيز الشائعة في هذه المؤلفات كلها التسوية بين التنقل الداخلي لأهل الجزيرة العربية من البوادي والقرى إلى مدن الحجاز كمكة وجدة ، والهجرات إلى هذه المدن من خارج السعودية ! وتسمية الفئتين المختلفتين باسم واحد هو «المهاجرين» أو «الوافدين» ! كما نجد لدى أبو بكر با قادر وزميلتيه في كتاب «جدة أم الرخا والشدة» (انظر مثل 72 ، 75) ، كقولهم مثلا : «أصبحت التركيبة السكانية عبارة عن خليط من أبناء المدينة الأصلية ، هذا بالإضافة إلى من هاجر إليها من مكة والمدينة ومن المهاجرين من القرى البعيدة وكذلك من أطراف المملكة» ( ص 75 ) ، ونلحظ هنا إسباغ وصف «الأصالة» على المهاجرين الحقيقيين الذين وفدوا إلى الحجاز من خارج السعودية للحج والعمرة والزيارة ثم استوطنوا ، وتسمية أهل الحجاز في البوادي والقرى ممن انتقل إلى مكة للسكنى : «مهاجرين» !! وكذلك يسوّي عبدالقدوس الأنصاري بين قبائل الحجاز والشمال والجنوب ممن انتقل إلى جدة للسكنى وبين المسلمين القادمين من خارج السعودية للحج والعمرة في إطلاق اسم «الوافدين» على الجميع !! (انظر موسوعة تاريخ جدة 113) ، بل الأعجب من ذلك تسمية أهل الحجاز المنتقلين من البوادي والقرى إلى مكة «راحلين» مقابل تسمية ساكني مكة من الوافدين إليها من خارج الجزيرة : «أهل مكة» !! كما نجد لدى فتحية عطار في معجم «عامية مكة..» (انظر مثلا 379) . والمؤلفة هنا لم تحدد صراحة مرادها بعبارة «أهل مكة»، ولكن سياقات العبارة في معجمها تحدد المراد إذ تكون الألفاظ العامية المفسَّرة خاصة بطبقة اجتماعية معينة ، ومع ذلك تنسبها إلى من تسميهم : «أهل مكة» عموما ! ومثلها في هذا الصنيع إبراهيم عباس نَتّو كما سبق ذكره .
2 ـ ومما يدل كذلك على التحيز الثقافي الخفي في الرسالة التي يقدمها المسلسل ظهور نبرة التحدي في خطاب المدافعين عن المسلسل ، سواء من الكاتب أم بعض ممثليه الكبار (كمحمد بخش . وانظر روابط يوتيوب السابقة) أم من أشخاص آخرين شاركوا في وسم «هوية الحجاز» على تويتر ، فكلهم كان يطالب متهِمِي المسلسل بالتحيز والعنصرية بإنتاج عمل فني مضاد يقدم وجهة النظر المخالِفة فنيا وثقافيا ! وكأن الثقافة الوطنية المشتركة أصبحت مجالا رخيصا مبتذلا للمنافسات والمشاكسات لا عِصْمة قومية بل رابطة قيمية وجودية لا يجوز الدعوة إلى العبث بحماها باسم المنافسة الفنية المزعومة ، فالثقافة هي دماء الحياة الجارية في أوردة أهلها ، وهي هواء الأفكار والسلوك الذي يُحيي كيان المجتمع ، وليست بحاجة إلى أعمال فنية لإثبات الانتساب إليها ! ولا يُفزَع إلى الدراما في بيان حقائقها وكشف الزيف عنها !
ودائما ردود الفعل تكشف ما خفي من المضامين ، وتقوم بوظيفة خط إمداد مسانِد يعبر عما لم تُرِد الرسالة الظاهرة التعبير عنه بصراحة ، أو عما يستكن في لاشعور مرسلها ، ومن أمثلة هذه الردود التي كشفت المضامين الخفية بصورة قبيحة تغريدات للدكتورة صباح أبو زنادة شتمت فيها قبائل الحجاز ووصفتهم بأنهم كانوا قطاع طرق وأن بعضهم كانوا خدما لمن سمّتهم أهل مكة وجدة ، وأن غيرتهم ــ بزعمها ــ من حضارة أهل جدة التي يفتقدونها بكل ما فيها من قيم ورقي وطيبة هي التي دفعتهم إلى الاحتجاج على مسلسل حارة الشيخ !!
وبمناسبة نبز صباح أبو زنادة للقبائل بقطع الطريق نجد هذه التهمة تتكرر في بعض المؤلفات المذكورة آنفا عن ثقافة المدن الحجازية بأسلوب يُوحِي للقارئ الذي لا يعرف حقيقة الحال أن هذه «علامة ثقافية» على قبائل الحجاز !! فمثلا نجد مؤلفي كتاب «جدة أم الرخا والشدة» يقولون: «كانت جدة محاطة ببدو من قطاع الطرق ، ومن ثم كانت مسوّرة يعيش سكانها ضمن إطار محدد لا يسمح بزيادة أعدادهم ، حيث كانت أي عملية توسع تعني مواجهات مع البدو المترصدين ..» (ص 72) ، ويتم هذا الأسلوب الإيحائي بوسيلة الربط المتكرر بين قطاع الطرق والبادية ، فيقرّ في تصور القارئ الخالي الذهن أن قيم البادية هي التي تنتج ثقافة قطع الطريق ! في حين أن قطع الطريق سلوك عدواني عام يمكن أن يحدث في البادية وفي الحاضرة ، وقد قص الله في كتابه عن قوم لوط أنهم كانوا يقطعون السبيل ، وهم أهل حاضرة. وفي حارات المدن المتدنية اجتماعيا واقتصاديا يوجد غالبا فئة من قطاع الطرق داخل المدن ، وهم من يُطلق عليهم في الثقافة الشعبية اسم «البلطجية» ، وأحيانا: «الفُتُوّة» ونحو ذلك. وكما أن في البرّ قطاع طرق ففي البحر كذلك وهم المعروفون بالقراصنة ، ولكن العنصرية الثقافية تعبث بفكر صاحبها حتى تُشكّل في ذهنه صورة نمطية مختلطة من حقائق وأكاذيب ، ومع تكرار هذه الصورة النمطية في أحاديث الناس وأمثالهم وحكاياتهم وكتاباتهم تترسخ حتى تصبح مسلّمة ثقافية لا يكاد يعيد النظر فيها مَن يُفترض فيه النقد والتمحيص كالمثقف الأكاديمي ، فضلا عن عامة الناس ممن لم يتعود الفحص والتحرّي.
- د . خالد الغامدي