د. عبدالحق عزوزي
من تتبع جل توصيات الملتقيات العربية الأخيرة التي تتناول أوجه خروج منطقتنا مما هي عليه اليوم، إلى مدارج الكمال في المسائل الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، سيرى أنها تدعو إلى ضرورة إصلاح بعض مظاهر الخلل الهيكلي في بعض الاقتصادات من خلال تخفيض النفقات وقيام دول «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» مثلاً بوضع خطط اقتصادية شاملة قصيرة الأجل وطويلة الأجل، بهدف توجيه اقتصاداتها إلى أنشطة غير نفطية تساعد على تنويع مصادر دخلها القومي وتعددها والإسراع في جهود التنمية المستدامة بوصفها أساس الانطلاق إلى مرحلة ما بعد النفط.. والعمل على زيادة الاهتمام بإنتاج المعرفة من خلال تهيئة البيئتين التشريعية والاقتصادية الملائمتين بما يؤدي إلى توفير الظروف المناسبة لهذا العنصر المهم الذي يمكن أن يوفر مصدراً آخر من مصادر الدخل في دول «مجلس التعاون لدول الخليج العربية».
كما أن العديد من هاته التوصيات تتوقف عند ضرورة الاستثمار في العامل البشري، فبدونه تضيع مصالح الشعوب والأجيال. فدول كالهند واليابان وكوريا الجنوبية التي لا تملك أي موارد طبيعية استثمرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في المورد البشري فأصبحت دولاً متقدمة وأصبح البحث العلمي فيها متطوراً وغذت دولاً يضرب بها المثل... فمن مسؤولية الجميع اليوم في الوطن العربي الاستثمار في العقول والإقدام على اتخاذ قرارات شجاعة لتحقيق الملائمة بين التكوين العلمي والمهني والتقني وبين مستلزمات الاقتصاد العصري، وتشجيع البحث العلمي والابتكار، والانخراط في اقتصاد ومجتمع المعرفة والاتصال، وإعطاء نفس جديد لنظام البحث العلمي والتقني في الوطن العربي من خلال تبني إستراتيجية كفيلة بتأهيل البحث العلمي والتقني الوطني، وجعله في خدمة التنمية.
وللأسف يتهاتف المتهافتون اليوم في بعض الأوطان العربية على مشاكل تكون الشعوب في غنى عنها وبالأخص إذا كانت ذات لون ديني أو إيديولوجي مدو وينسون أو يتناسون الأولويات التي يجب تناولها بدل الخوض في مشاكل تحرك المشاعر والوجدان ويكون لتحريكها خطر على المجتمع، وتكون طامة كبرى ومصيبة آزفة وداهية عظمى ليس لها من دون الله كاشفة على مستقبل العباد والأوطان.
كل هاته التوصيات يمكن تلخيصها في ضرورة «القوة الذكية»... لقد نجحت الهند والعديد من المدن والجامعات الآسيوية في تطوير البحث العلمي والتكنولوجي ومكنتها من تحقيق المستحيل وبموارد قليلة جداً مثل اليابان اللهم ما تعلق بالموارد البشرية وهو ما نملكه نحن العرب أيضاً.
ولا غرو أن دولاً مثل الهند أصبحت مجسدة لهاته القوة الذكية.. فهاته القوة في القرن الحادي والعشرين لا يعني عدد الرؤوس النووية التي تتوفر عليها البلدة أو كيف تحافظ على السيطرة العسكرية بل يعني ذلك إيجاد طرائق للجمع بين الموارد في إستراتيجيات ناجحة في مجال التنمية والابتكار.
الهند لها ساكنة كبيرة جداً: أزيد من مليار ومائتي مليون نسمة. وكل المؤشرات توحي بأن هاته البلدة بدأت تدخل نادي الدول الكبار في المجالات الاقتصادية والبحثية والابتكارية دون نسيان المجالات العسكرية المتعددة. كما أن بعض المحللين الاقتصاديين يكتبون بأن الهند يمكن أن تحتل اقتصادياً الرتبة الثالثة عالمياً في حدود 2030 نظراً للتطور الهائل الذي يشهده القطاع الخاص الهندي. ثم هناك أكثر من نصف الساكنة لها أقل من 25 سنة بمعنى أن مشكل الشيخوخة التي تعاني منها دول جارة كالصين وتداعيات ذلك اقتصادياً واجتماعياً لا تشغل بال المسؤولين الهنديين.. ولكن القوة التي سمحت لها بدخول عالم مستكشفي الكوكب الأحمر تكمن في البحث العلمي المتطور وفي علمائها الذين هم في تزايد مستمر: أكثر من 400000 مهندس يتخرجون سنوياً من الجامعات والمعاهد الهندية المتخصصة أي بمعدل مماثل لما هو عليه عدد المتخرجين من أمريكا وأكثر بكثير من عدد المتخرجين في أوروبا مجتمعة.. كما أن الهند متفوقة عالمياً في مجالات رائدة كالتكنولوجيات الحديثة، والصيدلة وصناعة الآليات والصناعة المتعلقة بالفضاء.. وفي الهند أزيد من 50 مليون مستثمر ويجعلون من الصناعة الهندية صناعة الابتكار والكفاءات أكثر من جارتها الصينية؛ كما أن للمقاولين والمستثمرين الهنديين مخاطبين كثراً نظراً للديمقراطية التشاركية (الحكومات، مجموعات الضغط، المواطنون، المحاكم،...) أما في الصين فالمخاطب الوحيد هو الدولة.
إن تنمية المهارات والعلم والبحث والتنمية والابتكار هي المفتاح الذي يسمح لدولنا العربية، بفرص ربح معركة التنافسية، وبالتالي معركة العولمة. ويتطلب التحدي من هذا النوع اعتماد نظام تعليمي قوي وذي جودة، كما يتطلب رؤية واضحة في مجال التنمية التكنولوجية، وهذا هو الأساس لتحقيق هاته القوة الذكية.