د.خالد بن صالح المنيف
تأمَّلتُ في حال بعض البشر فوجدتُ عجبًا!
لا يقرُّ قرارُه، ولا يهنأ بالُه، ولا يطيب عيشُه إلَّا بعدما يؤذي!
كأنما فُطِر على الشرِّ، وطُبِع على الأذى!
أو كأنما عاشَ مع الثعابين والعقارب في جحور واحدة، أو رضَع مع ضباع!
كالكلب المسعور لا يفكر إلَّا في البطش، وكالنِّمر لا يفكر إلَّا في الانقضاض، وكالذِّئب المجنون همُّه الأولُ التنكيلُ!
وكالحيَّة لا راحةَ لها إلا بنفث السُّمِّ، وكالصَّقر يدور في الفضاء وعيناه تبحثُ عن فريسة!
جدارتُه العالية تتمثل في إلحاق الضَّرر بالآخرين!
سُعارٌ نفسيٌّ رهيبٌ بين جوانحه وعدوانية ملتهِبة تعتلجُ بها روحُه!
إنْ أُتيحَت الفرصةُ له أنْ يعتدي باليد فعَلَ، وإنْ لم تُتَح له اعتدى مشافهةً بلسان يغذيه ناب الأفعى يتدفق منه السمُّ الزعافُ!
وإنْ لم يستطِع اعتدى كتابةً عن طريق مواقع التواصل بمداد من حقد وعدوانية!
هو بشرٌ من لحم ودَمٍ، ولكنَّ قلبَه عامرٌ بالحقد، وعقله رانَ عليه الجهلُ!
تجده يسبُّ هذا، ويلعن ذاكَ، ويشارك بسقم في ذلك الوسم السافل الذي لا ناقةَ له ولاجملَ فيه!
من أولوياتِ الشِّرير تحطيمُ البشر والانتقاص من قدْرِهم وتشويه صُورهم.
يصف الأديبُ (رجاء النقاش) هؤلاء بقوله: «هناك نوعٌ من الناس يكره الامتيازَ، ويعادي التفوق، ويخاف خوفًا عميقًا أنْ يرى أيَّ شخص يتمتع بموهبـة لامعة، لا يحب أنْ يرى تمثالًا جميلًا تنظر إليه العيونُ بإعجاب، وتلتفُّ حوله القلوبُ بأعمق ما فيها من عاطفة، ولكنه يستريح تمامًا إذا حطَّم هذا التمثالَ ورآه مجموعةً متناثرةً من الأحجار... منظرُ الضَّعف يريحه ويسعده... وأوراقُ الخريف عنده أحلى من زهور الربيع، ومنظرُ الدَّمار يطمئنه على أنَّ العالم بخير، ليس فيه تفوُّق وامتياز؛ فاحذر هذا الصِّنف من معاشرتِه أشدَّ الحذر!»
فلا تستغرب أنْ يعتدي عليكَ وأنت في بيتِكَ بكلمة أو بشتم أو بإشاعة أو بتشويه صور، خاصةً إذا كنتَ ممَّن يعملونَ ويُنتجونَ ويتحركونَ!
يعتدي وهو لا يعرفُكَ، لم يقابلْك، ولاثمة علاقةٌ بينكما!
فأنت لم تؤذِه في نفسِه، ولم تكن سببًا في انحراف ولدِه، لم تُفسِد عليه زوجته، ولم تنافسْه في مجدٍ، ولم تزاحمْه على منصب ولم تسدّ عليه دربًا، ولم تستعدِ عليه حاكمًا ولم تضيِّق عليه منزلًا، لم تسرق منه طعامًا، ولم تعكِّر له شرابًا، ولم تسلب منه متاعًا، ولم تحجب عنه ضوءَ الشَّمس ولم تأخذ نصيبَه من الهواء، ولم ولن يقلل وجودَك في هذه الدُّنيا من أفراحه ولا مسراته، ولن تكون الأرض أوسعَ بعد رحيلِك، ولن يصبح الفضاءُ أرحبَ بعد شنقِكَ، بل قد تكون ممن اجتهد في إصلاحه وتوجيهه وبيان درب الخير له؛ ومع هذا لا يستنكف من إيذائكَ والنيل منكَ!
يقول (إيليا أبو ماضي): «عندما ينام العقلُ يستيقظ الحيوانُ الراقد في الإنسان؛ فيصير نزّاعًا إلى الفتك والبطش والسَّيطرة!
بشَرٌ فيهم نزعة الضواري للتخديش والتمزيق، تخديش السُّمعة لا الجلود، وتمزيق الكرامة لا اللحوم! ومن العجائب أنَّ بعض البشر يتربَّصونَ بمَن يحاول نفعَهم ويتمنى صلاحَهم؛ فهو يحبُّ وهم يكرهونَ، وهو يسمو وهم يهبطونَ!
من علاماتِ الشِّرير أنه لايدركُ أخطاءه، ولا يقفُ على عيوبِه، وينطلقُ يفتِّش يمنةً ويسارًا في الظواهر والخفايا؛ لعلَّه يقتنص زلةً أو يجد هفوةً أو يمسك خطأ، فإنْ وجد انطلقَ يتحدَّث قائمًا وقاعدًا.
والشريرُ جنايتُه على الحياة كبيرةٌ، ولكن جنايتَه على نفسِه أعظمُ وأكبرُ؛ لأنه يُضاعِف آلامه ويُصلِي روحَه المسعورةَ جحيمًا!
نهشٌ في البشر، وفرْيٌ في الأعراض بألسنة نتنةٍ، وأقلام قذرةٍ!
إنْ هجَم على زلَّة، أو وقَع على خطأ سعى في نشرِه بحماس بالغ وجهد كبير كأنما فرحُ الكون متوقفٌ على تحقيق هذا الأمر!
وعارٌ علينا أنْ نتربصَ بمَن حولنا الدَّوائر، كأنما نتعاملُ مع مرَدة الجنِّ!
فإنْ صعَد إنسانٌ لأعلى فإنَّ له نقصًا وعيوبًا، ومَهما هبط أسفل فإنَّ له حسناتٍ وإيجابياتٍ!
وصلْنا لمرحلة أنَّ غاية ما نتمنى من البشر الآنَ أن يكفُونا شرَّهم! لا نريد منهم إحسانًا ولا بذلًا، فقط أنْ يكفُّوا عنَّا الأذى!
نريدهم أنْ يكفُّوا عن الشرِّ رأفةً بهم وشفقةً عليهم؛ حتى يحيوا حياةً جميلةً بقلوب ساكنة، ونفوس مطمئِنَّة!
ومضة قلم
إنْ أخطأ مُحْسِنٌ عليك؛ فدَع خطأه يذوب في بحر إحسانه إليك.