د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
قد سارت المملكة العربية السعودية في سياستها الخارجية على أُسس وقواعد ثابتة، تعتمد على نشر القيم الإسلامية السمحة، وتعزيز ارتباط الشعوب الإسلامية بأوطانها، وفي هذا السياق يقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -وفقه الله- في كلمته التي ألقاها في حفل افتتاح السنة الأولى من الدورة السابعة لمجلس الشورى: «وفي مجال السياسة الخارجية سنستمر بالأخذ بنهج التعاون مع المجتمع الدولي لتحقيق السلام العالمي، وتعزيز التفاعل مع الشعوب لترسيخ قيم التسامح والتعايش المشترك، ونرى أن خيار الحل السياسي للأزمات الدولية هو الأمثل لتحقيق تطلعات الشعوب نحو السلام، وبما يفسح المجال لتحقيق التنمية» ليؤكد -حفظه الله- أن الدين القويم الذي نزل على رسول البشرية محمد -صلى الله عليه وسلم-، هو دين الوسطية والتسامح الذي تنتهجه المملكة العربية السعودية، وهو ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون من بعده -رضي الله عنهم-، فالنبي الكريم قُدوتنا ومَثلنا الأعلى، وسوف نواجه كل من يدعو إلى التطرف والغلو امتثالاً لقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) وبالقدر نفسه سوف نواجه كل من يدعو إلى التفريط بالدين».
لقد سعى خادم الحرمين الشريفين -أيده الله- إلى بَثّ السلام والأمن في مختلف دول العالم، فكانت المملكة ولاتزال اليد الحانية على مختلف الأقطار الإسلامية، فتمدها بالمساعدات في الكوارث، وتهب لنجدتها في الأزمات، وتبذل دوماً الغالي والنفيس لتطوير هذه الدول ونشر العدل والتسامح فيها.
لقد كان لزيارة خادم الملك سلمان بن عبدالعزيز -سلّمه الله- لجمهورية إندونيسيا الأثر البالغ لدى الإندونيسيين حكومة وشعباً فهذا البلد من أكبر الدول الإسلامية من حيث المساحة والسكان، وأكثرها أهميةً استراتيجية، وقد أدركت حكومتنا الرشيدة هذا الأمر، فسعت إلى تعزيز الشراكة الاقتصادية والتنموية والفكرية مع الإندونيسيين، وكانت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، هي الرابط الأقوى، والجسر الأمتن بين المملكة وإندونيسيا، وكيف لا تكون كذلك وهي المنارة الفكرية والثقافية، التي تُشع علماً في مختلف المدن والولايات الإندونيسية، فهي سراج هُدى يَبثُّ قِيم التسامح والحوار التي نَدب إليها ديننا الإسلامي الحنيف.
لقد كان يوماً مشهوداً؛ ذلك اليوم الذي صدرت فيه الموافقة السامية الكريمة على إنشاء ثلاثة معاهد تابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد جاءت موافقة خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- تتويجاً لجهود جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في ميدان نشر العلم والمعرفة، وقيم التسامح والسلام؛ فلديها خبرة في مجالات التعاون العلمي والأكاديمي في العديد من الدول عبر معاهدها في الخارج، إضافة إلى إشرافها على مؤسسات أكاديمية وتعليمية في مختلف أقطار العالم؛ تسعى من خلالها إلى تعليم اللغة العربية ونشر العلوم الشرعية لأبناء الأقليات المسلمة، وبناء علاقات ناجحة مع الجهات التعليمية والدوائر الحكومية والأهلية في مجالات التدريس والدورات والندوات وتنمية المهارات، وتفعيل العلاقات الطيبة والحسنة وتبادل الخبرات العلمية والبحثية، في ضوء رسالتها وأهدافها المنطلقة من كتاب الله وسنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومبادئ شريعة الإسلام الحقّة، في ظل توجيهات ودعم وتأييد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- التي تؤكد نشر اللغة العربية والعلوم الإسلامية.
لقد كانت الأيام الثمانية التي قضيناها في جمهورية إندونيسيا أياماً حافلة بالجهد والعطاء، فمنذ وصولنا إلى جاكرتا والعمل على قدمٍ وساق، بقيادة معالي شيخنا الفاضل الأستاذ الدكتور: سليمان بن عبدالله أبا الخيل، مدير الجامعة، عضو هيئة كبار العلماء، حيث لم يكن لدينا وقتٌ للراحة، فكانت المهام تلو المهام، بداية بوضع حجر الأساس لمبنى الأنشطة الطلابية بمقر معهد العلوم الإسلامية والعربية بجاكرتا، وانتهاءً بزيارة ولاية ملانق حيث تم الإعلان عن موافقة خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- على إنشاء مركز لتعليم اللغة العربية والعلوم الشرعية في ولاية ملانق.
في خضم زياراتنا المتتالية للمدن والولايات الإندونيسية، توجهنا إلى جامع الاستقلال لأداء صلاة الجمعة، لنصل إلى الجامع بصعوبة بالغة بسبب الزحام الشديد، فكثير من الإندونيسيين في المدن والولايات المجاورة لجاكرتا يقصدون هذا الجامع للصلاة، وعندما دخلنا إلى المسجد انبهرنا من أعداد المصلين الذين يتجاوزون مئتي ألف مصلِّ وفق إفادة مشرفي الجامع، وبعد انتهاء صلاة الجمعة توافد آلاف المصلين للقاء معالي الشيخ أ.د.سليمان أبا الخيل، ولولا تدخل الأمن ومسؤولي التنظيم في المسجد لما تمكن فضيلة الشيخ من إلقاء محاضرته عن قيم التسامح والسلام، وعن جهود المملكة في هذا الميدان، وبعد انتهاء المحاضرة اصطحبنا إمام وخطيب الجامع فضيلة الدكتور: أحزمي سامعون جزولي، في جولة في أرجاء هذا الصرح المعماري الفريد، وأثناء حديثنا معه كان يثني على المملكة حكومة وشعباً، وعلى الدور الريادي لجامعة الإمام، ولا يستغرب الوفاء من أهله إذا عرفنا أنه أحد خريجي الجامعة، لقد كان منظراً مهيباً ويبعث الفخر والاعتزاز؛ ونحن نرى أحد خريجي الجامعة يؤم المصلين في أضخم الجوامع على مستوى العالم.
كُنَّا نستمطر البركة بالبكور بقيادة شيخنا المبارك أ. د. سليمان أبا الخيل، لنتحرك من الفندق بعد صلاة الفجر مباشرة متوجهين إلى المطار، فنبدأ جولات وجولات على عدد من المدن والولايات الإندونيسية، ولا نعود إلى العاصمة جاكرتا إلا بعد منتصف الليل، فلا ننام سوى ساعة أو ساعتين حتى يؤذن المؤذن لصلاة الفجر، ليبدأ بعدها برنامج حافل، وكنا كلما بلغ منا التعب مبلغه نشحذ هِممنا بما نلقاه من تحفيز وتشجيع شيخنا معالي الأستاذ الدكتور: سليمان أبا الخيل، هذا الرجل الهُمام الذي يقوم بجهد كبير في سبيل خدمة الدين والوطن.
ما يميز الشعب الإندونيسي هو حبه للعمل وبحثه المستمر عن المعرفة، فالحِرفي في معمله، والتاجر في دكانه، والطالب في جامعته، فهم رغم شغفهم بالمعرفة وبحثهم عنها، صغيرهم وكبيرهم إلا أنهم غير فضوليين! فمن يزور ولاياتهم ومقاطعاتهم يشعر وكأنه واحدٌ منهم، ورغم وجودهم في أسيا إلا أن كثيراً من طباعهم لا تتماشى وطبيعة الشعوب الآسيوية، فهم اجتماعيون في حدود ضيقة، ولكنهم ودودون جداً.
كانت الرحلة بالطائرة من جاكرتا إلى الولايات الإندونيسية مرهقة جداً، بسبب نوعية الطائرات والأجواء، فما إن تشرع الطائرة في الهبوط التدريجي إلا وتبدأ معها آلام فظيعة في الأذن بسبب الضغط الجوي، وما يزيد الإرهاق أننا نسافر لمدينتين أو ثلاث يومياً!
حكاية الرجل المسن والمملكة العربية السعودية!
استقبلنا مطار «باندا آتشيه» بأجواء نديّة فكان الرذاذ يغطي زجاج الطائرة، فانطلقنا من مخدع الطائرات إلى المدينة مستعينين بالله ومتوكلين عليه، لينتظرنا برنامج حافل من الزيارات الرسمية بداية بمحافظ الولاية، ومروراً بمجلس العلماء ومقر المعهد وانتهاءً بحفل تخريج طلبة معهد الملك عبدالله للدراسات الإسلامية والعربية في الولاية.
وبعد زيارة المعهد توجهنا إلى جامع المدينة لأداء صلاة المغرب، وعندما دخل معالي الشيخ سليمان، توافد المصلون إلى فضيلته رغبة في لقائه وسؤاله عن بعض المسائل الشرعية، وطلبوا منه أن يَؤُم المصلين في الجامع، فأجاب معاليه طلبهم فصلى بهم صلاة المغرب، وبعد أن انتهينا من الصلاة، أَسرني ذلك الصوت الشجي الذي اختلط فيه البكاء بالدعاء! ومما استدعى فضولي فصاحة لسانه وسلامة نطقه ومنطقه، فكأني بذلك الشيخ الوقور قد خرج من أعماق التراث، فتوقفت لأنصت إلى دعائه الندي، فلم أستطع أن أبرح مكاني، فلما فرغ من دعائه الذي خص به مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين ووطننا الغالي المملكة العربية السعودية، صلّى ركعتين، وبعد أن فرغ من صلاته توجهت إليه وصافحته ليبادرني بالسؤال: هل أنت سعودي؟ فقلت: نعم، فبكى، وقال: أُشهد الله على حب إمام المسلمين خادم الحرمين الشريفين وُحبّ بلادكم فأنتم أهلنا وبكم نقتدي، فمنذ عشر سنين وأنا أخصص هذا الوقت من بعد صلاة المغرب للدعاء لبلاد الحرمين وحكامها، ومنذ ذلك الحين وأنا أبحث عمّن يعلمني العربية، فقد كانت لدي رغبة جادة في تعلمها والبحث في العلوم الشرعية وعندما سمعت عن افتتاح معهد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في جاكرتا، عزمت الرحيل إلى هناك فالتحقت بالمعهد وتخرجت فيه، ومنذ ذلك الحين وأنا أنشر ما تعلمته من العلوم العربية والشرعية، في بلدتي «باندا آتشيه» وقد أثلج صدري افتتاح معهد الجامعة في مدينتنا مؤخراً، فو الله إن لكم الفضل بعد الله عز وجل في نشر الوسطية والاعتدال والمنهج الصحيح، في كل أرجاء إندونيسيا وقد أنقذتم بلدنا من المد الصفوي.
صعوبات تأسيس المعاهد
في الولايات الإندونيسية
لم تكن مشقة التنقل وضيق الوقت من أبرز الصعوبات التي واجهتنا، فقد حرص «أبو أحمد» الدكتور: محمد العلم، وكيل الجامعة للتعاون الدولي والتبادل المعرفي، على تذليل الصعوبات قدر الإمكان، ولكن من أكثر الصعوبات التي واجهتنا هي إقناع حكام الولايات بافتتاح المعاهد، وبتخصيص أراضٍ سكنية لها، فمن الأمور التي لابد من الاعتراف بها هي النشاط الإيراني في مختلف المدن الإندونيسية، وتأثيرهم القوي والظاهر مما يحتم مجابهته بالقوة المطلوبة، وكنا متخوفين من هذا الأمر بشكل كبير، إلا معالي شيخنا المبارك الأستاذ الدكتور سليمان بن عبدالله أبا الخيل، فقد استطاع إقناع حكام الولايات بافتتاح هذه المعاهد، وبعض حكام هذه الولايات لم يمنحوا معاهد الجامعة سوى مساحات صغيرة، ولكن بعد حوار معالي الشيخ سليمان معهم، استوعبوا أهمية معاهد الجامعة، ومهمتها الريادية في نشر المنهج الإسلامي الصحيح الذي يقوم على الوسطية والاعتدال، وحجم الفائدة الذي سيعود على المجتمع الإندونيسي، فمنحوا المعاهد مساحات واسعة تكفي لإقامة جامعات، وهذا من فضل الله عز وجل وتوفيقه، ثم بفضل جهود معالي الشيخ د.سليمان، جزاه الله خير الجزاء.
المملكة العربية السعودية دولة خير وعطاء ونماء، ولم تقصّر في مد يد العون والمساعدة إلى المسلمين في مختلف أنحاء العالم وتبقى المسؤولية على المسؤولين في الجهات التي يتصل عملها بالخارج في تفعيل هذا الدعم والاهتمام، الذي توليه حكومة خادم الحرمين الشريفين للمسلمين في مختلف أرجاء العالم، وهذا من أبرز توجهات رؤية المملكة 2030، التي تؤكد مكانة المملكة على الصعيدين العربي والإسلامي، إن تجربة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في هذا الميدان تجربة ناجحة ورائدة، وهي رافد مهم للسياسة الخارجية السعودية، وهي حقل خصب للاستفادة من تجاربها في هذا الصعيد المهم.