رمضان جريدي العنزي
البارحة تأملت كل شيء، أعدت ترتيب الصور بالتأملات التي تشطح في رأسي، وتمر أمام عيني، لتستوي عندي الذكريات مثل أحواض الورد التي تغالب الأتربة والعطش، كل ما في الماضي أبهرني، هزني، وأوقظ في الحياة، وأشعرني بلذة مغايرة، البارحة احتجت لمحفزات كثيرة لتوقظني من سباتي الطويل، وتعيد لي الذكريات التي خمدت تحت الدثار المتين، جاءتني الكثير من الأحداث والصور، مر أصدقاء ومعارف، مرت غيوم كثيرة ومطر، مرت أحلام وكوابيس، مرت حياتي كلها أمامي كفيلم قصير، مرت بي تلك الريح الهوجاء المحملة بالرمل والتي اقتلعت عمود الواسط ذات خريف، مر بي زمن الرحيل المر، والقيظ والبرد والقحط، مر بي كيف كان الخوف والشتات والهاجس، مرت بي أشياء كثيرة كنت أسعى إلى الإمساك والظفر بصورها التي جاءت على شكل ومضات سريعة لكن إيحاءاتها وأشكالها كثيفة ومتنوعة، لقد تشابكت لحظتها عندي كل مكونات الماضي طريقة ورؤى، مفهوماً وامتداداً، كنت أصطاد الصور من لوحة الماضي كدرويش كريم في زمن بخيل، تأتيني تباعاً كبرق سريع، وكمن أعطي فرصة ثمينة، رحت أفتح نوافذ الماضي نافذة نافذة، جاءتني وجوه كثيرة أولها وجه - حمدي - الرجل السبعيني الحكيم الأنيس الذي عاصر المر والشتات والعوز والرحيل، هضاب الصحارى شعابها وأوديتها، غبش الليالي، والملح والرماد، والجرار المكسورة، والفخار الذي عفره الرماد، وقصائد الذهول، - حمدي - السبعيني مازال الحب يخمش قلبه، ويتسرب في روحة الطافحة بالبهاء، عندما يجاذبك الحديث تشعر وكأنك أمام تضاريس ومناخ ومحطات كثيرة، ورخام مطارات، ومضارب بادية، له مفاهيم ذات أبعاد متعددة، شخصيته مختلفة، ورسمه غير، بارع في سرد الأحداث، ويحفظ القصائد والقصص، يتجاوز القول المباشر ليتركنا في عالم متعدد الوجوه، وكلها وجوه حزينة ومتعبة ومفجوعة ومفجعة والنزر منها بهيج من جيل الشتات والرحيل والاحتراب والبحث عن طائر القطاء والظباء وموارد المياه، والأودية التي تصب المياه في مجاريها حين يحل الشتاء، لا شيء كان يفسد المكان والزمان سوى «الحنشل» الذين يهزون أيديهم بهراواتهم الغليظة، وقد صدأت أرواحهم، وأغلقت قلوبهم، ومسهم الجنون، الرياض الزاهية بالألوان الربيعية التي أنبتها الله في أرضه، لا شيء كان يفسد متعتها سوى قوافل الخراب حين تحل تريد احتلال المكان غصباً وعنوة وسحتاً، بيوت الشعر التي كانت تبنى متباعدة من شدة تماسكها لا تترك المطر العذب أن يخترقه، تبدو البيوت حينذاك كعش من الخضرة العابقة، لكن الناس كانوا ساهرين عليها خوفاً من زوار الفجر والعطش والصعاليك والجفاف والحنشل، الماضي لم يكن وردي اللون، كان يشوبه الكثير من المنغصات والمآسي والأحزان والأسى، حتى الطيور لولا ضوء الشمس لما باضت وأخرجت صيصانها وزهت بريشها، في الليل كان الخوف يشوب، فلا يسمع إلا وقع الأقدام المتنقلة بحذر، وهمس الكلام، الرهبة تظلل الناس، والعيون مفتوحة على وسعها، والخطى محتشدة بالحذر، والقلق كبير، لكأن الجميع ينتظرون مفاجأة، الناس كانوا يتدربون على الصبر يومياً لكي لا يفقدوا عقولهم، وكي يرتقوا في عيون بعضهم، مرت بي سحابة تأمل طويلة، وأنا أرنو لوجه - حمدي - المشبع بالحكايا الطويلة، وسرد الأسى، قبل أن ألملم أغراضي باتجاه الحاضر الزاهي، أمشي على شوقي، وأنفاسي الحرى، أمرغ كفي اللاهبة بأول حجر من أحجاره، وأتعفر برمله الذي يشبه اللؤلؤ، الآن ليس في البال سوى مشاهده النورانية التي تفيض على روحي، حتى لكأنني أغتسل بضوء الصباح، أو مسور بالتيجان، والتطريزات النباتية، أنسى الأزمنة الغابرة التي كنا بها، مداخلها مخارجها مساحاتها والأروقة، وأفلت من رماد الحال، وتفاصيل الظلام، لأنبجس مع الضوء والنور والناس والأقواس والبلور وصوت الطيور التي تشبه جوقة الموسيقى وسحر الفجر الهادئ الجميل، نسيت الماضي وحكايات - حمدي - عنه ورحت لأشجار الزيتون المزروعة في تلال الشمال، وحقول الحنطة في سهوله، والخوخ والمنجا والدراق في جازان، ومدرجات الذرة الرفيعة والقمح والعدس في عسير، وهذه البادية التي صارت سلاسل حجرية لونها وردي تكبر بازدهاء ما بين فاصل وفاصل، أميل نازلاً نحو الشرق ومن ثم الغرب لأرى شواطئه بهية مثل قصائد تبتسم، ونخيله الطويلات مثل جميلات بأثواب مطرزة بخيوط ملونة، البناء الطويل في حاضرنا اتسع، والشوارع نمت، والجسور عظمت، والأرصفة مبلطة بالرخام، والناس لبست أزهى الثياب، بعد أن كان «سويحلي» قطعة من قماش خشن، والجيوب امتلأت، والبيوت صارت قصوراً، فصلت كما ينبغي.
اعذروني، فأنا أحاول أن أكتب إليكم عن كل شيء، كي تعيشوا كما كان غيرنا يعيش، لهذا لم أنم البارحة كثيراً، لأنني كنت حينها مثل تلميذ صغير ينحني على واجبه البيتي، يكتبه بشغف واهتمام كي يكتمل، حين أسمعني - حمدي - بسرده المميز تفاصيل الماضي التليد والعابق بالمرارة، خطواتنا اليوم بين الأمم تعالت، وقد لفنا هالة من الضوء، طوينا المسافات الطويلة بخطى سريعة، نعيش الدهشة تأسرنا تلفنا وتدور بنا، نبدو مضيئين مثل نجمة، ومثل منداة لامعة، ومثل مروج، أو كطيوف الأرجوان، ندرك جميعاً بأننا افترشنا مرجة عشب ندي، وحولنا طيور وظلال وهواء، والغدير دانٍ أمامنا تحف به أعواد القصب، انطلقنا نحو عوالم الدنيا كلها، بعد أن كنا منكمشين على أنفسنا كالقنافذ، تعترينا القسوة والشوك والحجارة والضمور، والأرواح الشريرة التي كانت تلاحقنا بجنون، والغصة الكبيرة التي تركها المشهد، لا شيء كان يبارينا سوى الظلام المخيف، والتلال الموحشة، واللص وقاطع الطريق، اعذروني قد أكون أطلت عليكم لكنني هنا أقوم بدور النحال الغشيم الذي يلسع ألف مرة كي يرفع قرصاً واحداً من العسل، فالماضي كان كالحديد المبرود، أو الأشجار الشوكية، أو العشب الذي يميل نحو الاصفرار الفاقع، كانت الحياة ثقيلة متعبة جافة، حتى صارت الآن مثل سمفونية عذبة ترتقي بالروح نحو عوالم أخرى باذخة بالجمال، أخذني التأمل طويلاً، حتى أفقت على طرق ابنتي الصغيرة للباب، تنبهت ثم استويت ثم استدرت نحوها وقبلتها ما بين عينيها الصغيرتين اللتين تشبهان عيني الحمامة، ثم عزفت لها النشيد الوطني لأبدد عطش الماضي وحرارته التي تشبه التنور، بارتواء الحاضر الذي يشبه الماء بين الأصابع، وحديقة الورود، وعبق الياسمين.