د. محمد بن إبراهيم الملحم
لا أدري كيف أكتب هذه المقالة لما تحمله من مضامين، قد تبدو متناقضة ظاهريًّا Paradox، لكني ولهذا السبب سأوضح ابتداء أنني أتبنى مبدأ أن الاحتفالات التي تُجرى في محيط المؤسسة التعليمية، سواء كانت على مستوى المدرسة أو الإدارة التعليمية أو الوزارة، لها وظيفة تربوية مهمة؛ لما تؤسسه من مشاعر فياضة نحو قيمة الإنجاز والتفوق، أو الإبداع والابتكار، كما أنها تمثل تطبيقًا مهمًّا من تطبيقات التواصل الاجتماعي، وأنموذجًا مثاليًّا لروح الأسرة الواحدة بين الطلاب، وبينهم وبين أعضاء المؤسسة التعليمية في الجانب الآخر. ويمكنني أن أستغرق كامل مساحة المقالة لتعداد الفوائد الاجتماعية والتربوية العميقة للحفلات المدرسية والتعليمية. ولكن هذا كله - بدون شك - يتطلب أن تكون هذه الاحتفالات ضمن حدود مفاهيم الأهداف التي وُضعت من أجلها المؤسسة التربوية، وتكون بناءة، بمعنى أن تضيف إلى قيم الطالب ومفاهيمه وتصوراته عن الحياة والعلاقات الاجتماعية ونظرته للمجتمع.. وهذه معانٍ لا حاجة لذكرها باعتبارها من البديهيات.
ماذا يحصل في حفلاتنا التعليمية؟ وأبرزها حفلات التخرج طبعًا التي هذا موسمها منذ أسبوعين حتى أسبوعنا هذا تقريبًا (سواء في المدارس أو الجامعات والكليات). ما يحصل هو - مع الأسف - تدمير لبعض القيم التي يجب أن تؤسس المدرسة طلابها عليها. هناك بذخ، وهناك طبقية اجتماعية، وهناك سوء تنظيم واستغلال مع شديد الأسف. وسوف أستعرض آخر جانبين من هذه الجوانب الثلاثة تاركًا الأول؛ فكل منا يشاهده ويشهد عليه. هذان الجانبان يجعلاني أتمنى ألا تقام هذه الحفلات، ويجلس كلٌّ في بيته أفضل. وأنا واثق بأن كثيرين نبسوا لأنفسهم (أو لغيرهم) هذه المقولة يومًا ما.
الطبقية الاجتماعية منبوذة في أماكن العلم؛ ولذلك أجمعت الممارسات التعليمية في كل العالم على اللباس الموحد، وهنا في مدارس البنات لدينا المريول وفي مدارس الأولاد اللباس الوطني. في حفلات التخرج يتم نسف ذلك لتلبس كل طالبة ما تشاء، وفوق ذلك تفصل عباءة للتخرج، قد تكون تكلفتها بقدر سعر المريول، بينما ستلبسها ذلك اليوم فقط ثم تُرمى. ويتم أيضًا تكليف الأطفال في المدارس والروضات بإحضار قبعة التخرج وعباءة التخرج «الجامعية» التي تكلف كثيرًا؛ ما يدخل أبناء الأسر المحتاجة أو المتوسطة في حرج. حتى لو اشترت تلك الأسر الملابس فإني أتصور مرحلة النقاش الأسري بين الوالدَين، أو بين أحدهما والطالب أو الطالبة حول مسألة الشراء والمشاركة، وهو سبب لزرع شعور النقص لدى الطالب؛ والسبب في ذلك هو أساس الأمر حينما قررت المدرسة (أو الجامعة أو الكلية) أن يكون حفل التخرج بهذه (البهارج). كل ذلك يمكن الاستغناء عنه، وعمل الحفل بنفس الملابس الرسمية؛ فالعبرة بمضمون الحفل ومناسبته السعيدة لا بما يلبسه كل شخص؛ فذلك مرض اجتماعي، نراه في حفلات الأعراس وفي الحفلات الأخرى، وينبغي أن نعمل على تخليص المجتمع منه، لا أن تقوم المؤسسة التعليمية بتغذيته ورعايته.
تقديم الهدايا أيضًا مشكلة أخرى عندما يسمح للطلاب بأن يقدموا هدايا لبعضهم، بل أحيانًا تظهر ولية أمر الطالبة على المسرح، وتُلبس ابنتها عقدًا ثمينًا من الذهب هدية لها بمناسبة تخرجها! بل حتى مجرد تقديم أولياء الأمور الهدايا لأبنائهم (وبناتهم) بعد حفلات التخرج المدرسية، وفي محيط المدرسة، هو أمر مرفوض؛ لما يجلبه من المقارنات ذات المعادلة الصعبة في بيئة الطلاب المراهقين والشباب. كل ذلك وغيره من تصرفات التخرج المحرجة تجري تحت نظر وسمع وموافقة إدارة المدرسة أو الكلية أو الجامعة، التي تعتقد أن أمثالنا من منتقدي ذلك هم قاتلو «الفرحة»، ويهرفون بما لا يعرفون.
حسنًا، سنكمل لكم «الهرف» حول استغلال الأطفال والطلاب بهذه الحفلات في المقالة القادمة؛ لنفهم أكثر البُعد النفسي لإدارات المؤسسات التعليمية القائمة على هذه الحفلات.