د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** بين مشيئة القول وقول المشيئة مسافةٌ معتمةٌ تُختبر فيها المبادئُ قبل الكلمات؛ فكلٌ يشاءُ أن يقول، وقلةٌ يقولون ما يشاؤون، والصمتُ مرحلةٌ في المنتصف، يستريح فيها وإليها من يودون التواؤمَ بين المنهجين فلا تغلبهم أيٌ من المشيئتين، وكثيرًا ما ترددت في أسماعنا إجاباتُ من آثروا الإقامة في هذا المُستراح فلن يحكُوا ما في أذهانهم كما لن يقبلوا أن يقتفوا ما يريده الآخرون، ودون إمعانٍ في التبرير فإنهم يحسبون مشيئتَهم غيرَ قادرة على اختراق حواجز التردد بين ما هو حقٌ يعتنقونه وما هو معتنقٌ ينكرونه، وهم بهذا يظلمون أنفسَهم مرتين؛ حين يُدارون ما يرون، وحين يرون ما يدارون؛ فيحجبون شمسًا تُظلُّ، ويرنون إلى علاماتٍ تُضل.
** وفي هذا المدار فئامٌ يقولون ما يشاؤون وما لا يشاؤون في خلطة كتابية غريبة؛ فلا يَميزُ تفكيرهم، ومنهم من إذا انفرد بمجلسٍ خاصٍ أفصح عن مواقف متناقضة مع ما يعرضه في المنتدى العام، وكأنه يود استصدار صك غفرانٍ من دوائره المقربة بادعاء أن ما يقرؤونه لا يمثله وما يمثله لا يقرؤونه، وهنا تيهٌ إراديٌ فرضته الأهواء وعاقبتُه الخواء.
(2)
** في عام 1976م صدر كتاب (الصامتون يتكلمون) لسامي جوهر محتويًا على شهادات ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة المصرية: (كمال الدين حسين وعبداللطيف البغدادي وحسن إبراهيم)، أفصحوا فيه عما سكتوا عنه خلال فترة حكم جمال عبدالناصر. وفي توقيت مقارب نشر توفيق الحكيم كتابه (عودة الوعي) فمثَّل تعادلًا مضادًّا لكتابه (عودة الروح)؛ فكأنه تكفيرٌ عن ذنب أو تطهرٌ من دنس.
** مثالان معبِّران عما يصنعه القمع من جانب، والتملق من جانبٍ آخر؛ فثلاثيُّ السياسة لم يكونوا قادرين على التعبير في زمن، وتهيأ لهم في زمن لاحق، ولا تثريب عليهم إذ صمتوا، والتوثق مهم بعدما نطقوا. أما الحكيم فالتف بنفسه حول نفسه؛ كي يتماهى مع خطاب جديد، سعى ليصبح أحد مكوناته، ولو لم يكن قد كتب ممجدًا الحقبة السابقة لالتُمس له عذر كأولئك الثلاثة، أما وقد حوَّل اتجاه قلمه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين لتغيُّر النظام الحاكم فقد أفصح عن جانب جديد من مهاراته المسرحية.
(3)
** لا أحد يجبر أحدًا على الكتابة بغير هواه، وقد تحول موانع عن النشر، لكنها لا تقف حاجزًا دون التدوين. ومن ادَّعى بغير هذا فعليه أن يراجع نفسه ومواقفه ومصالحه؛ فقد تأتي الإملاءات بذهب المعز مثلما تنتصب الحواجز بسيفه، ولا قيمة لتنظيرٍ يعي الأكثرون تهافته.
** تبقى المشيئة إطارًا شموليًّا، تحوي من ارتقى مكانًا عليًّا، ومن انتبذ آخر قصيًّا؛ فلكليهما إرادتُه التي تهديه، وربما تهوي به.
(4)
** السطور صدور.