د. فوزية البكر
بافتتاح معرض "طرق التجارة في الجزيرة العربية - روائع آثار المملكة العربية السعودية عبر العصور" في المتحف الوطني بالعاصمة الكورية الجنوبية سيئول في بداية شهر مايو تكون المملكة العربية السعودية قد خطت أخيرًا نحو تقديم نفسها بصورة مضادة للصور النمطية التي تمتلئ بها أذهان الشعوب الأخرى حول دول الشرق، خاصة الخليج الممتلئ بالبترول وتعدد النساء والبذخ اللاعقلاني، أو الأسوأ وهو الإرهاب والتطرف.
بدأت قصة هذا النجاح من خلال وعي شركة أرامكو بمسؤوليتها الاجتماعية التي ما فتئت تتبناها منذ إنشائها، ودعمتها بمشاريع اجتماعية كبيرة، شملت معظم مناطق المملكة، لكن أثرها كان - وما زال - ملموسًا أكثر حيث توجد الشركة في المنطقة الشرقية.
واليوم نعيش إحدى ثمار هذا العطاء من خلال معرض طرق التجارة العربية (روائع المملكة العربية السعودية عبر العصور)، الذي كان قد افتتحه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في محطته الداخلية في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي بالظهران التابع لشركة أرامكو 1 ديسمبر 2016؛ لينطلق في نسخته الجديدة إلى محطاته العالمية في آسيا بدءًا من الصين ثم سيئول، بعد أن طاف بأربع مدن أوروبية وخمس مدن أمريكية منذ العام 2010.
أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشوهة لصورنا الذهنية في مخيلة العالم والانفجار المعلوماتي اللامحدود حجَّم من دور الدبلوماسية التقليدية في إعادة تشكيل صورتنا رغم الإنفاق الكبير لهذه الدبلوماسية من خلال معارض وفعاليات طغت عليها أحيانًا قصور في التعامل مع الثقافات المختلفة؛ فلم تحقق كل المرجو منها، خاصة أن (تطرف اليمين في الغرب والإرهاب في الشرق) لم يُبقيا ولم يذرا بالنسبة لصورتنا الذهنية أي كيف ترانا الشعوب الأخرى؛ ما جعل تفعيل أساليب أخرى قد تساعد في تشكيل رؤية العالم هنا ضرورية لبقائنا ضمن المنظومة العالمية الشرعية، ولتقليل عنف اليمين الغربي علينا الذي بدأ يلاحقنا ويضيق علينا في سفرنا وتعليمنا وعلاجنا الصحي... إلخ.
يذكر العالم جوزيف ناي - وهو الأستاذ في هارفارد، الذي اعتبر أحد أكثر المؤثرين على صناعة القرار في السياسة الأمريكية للعام 2011، وأحد مائة عالم من أكثر المفكرين تأثيرًا على سياسات العالم - أن مصطلح القوة الناعمة مهم جدًّا في السياسات العامة، إضافة إلى القوة السياسية والعسكرية لأية دولة. ومثل هذا المعرض الذي يقدم المملكة العربية السعودية كجزء من التراث الإنساني العالمي هو إحدى تجليات الدبلوماسية الناعمة التي نحاول تفعيلها.
هناك بالطبع مصدر مهم وحيوي آخر، علينا استغلاله لما يحفل به من إمكانات كبيرة متنوعة واعدة، وهي تلك المواهب التي يمتلكها سكان هذا الوطن نساء ورجالاً في مختلف التخصصات، ويجب تعريف العالم بها. أفضل الأطباء هم من السعوديين، وأفضل مديري البنوك من السعوديين، وأفضل الباحثين في العديد من الحقول، خاصة الطبية والعلمية، هم من السعوديين.. وقس على ذلك، لكن من يعرف أن أفضل الأطباء على الأقل في منطقة الخليج هم من السعوديين؟ ومن يعرف أشهر الباحثين؟ من يعرف أن لدينا أشهر شخصيات السناب تشات ذكورًا وإناثًا في العالم العربي بثروات تقدر بالملايين، ومن يعرف نشطاء الشبكة العنكبوتية واليوتيوبرز والرابرز وغيرهم من مبتدعي الأنشطة الحديثة التي نشترك فيها مع العالم الشاب، إضافة إلى ما تملكه بلادنا من عمق تاريخي وديني تتمناه أية دولة، لكن هل تم استثمار المؤسسات الدينية الرسمية والأهلية بطريقة تسمح بجعل الإسلام - وهو كذلك - وسيلة لنشر السلام وحل النزعات ومكافحة التطرف والإرهاب؟
هنا تأتي الدبلوماسية السعودية الناعمة لتقدم أفضل ما لدينا من مواهب؛ ليرى العالم أننا أيضًا جزءٌ من هذا العالم الإنساني ببشره ونشاطاته المقدرة لخدمة العلم والحضارة الإنسانية.. لكن لن يتم ذلك بطريقة عمل سفاراتنا التقليدية والغارقة في البيروقراطية. دماء جديدة بسياسات جديدة يجب أن تتحرك في هذه السفارات باعتماد النشاطات المدنية كجزء أساسي من الوجه السعودي المشرق، وتفعيل الدبلوماسية الرقمية، وإعادة تنظيم المؤسسات الداخلية دينية وحكومية؛ لتبدأ في (تصور) أدوارها المهمة في إعادة بناء صورتنا الذهنية العالمية الغائبة تمامًا عن تفكير القطاعات المحلية.