د.فوزية أبو خالد
هل هناك اختيار بين أن يكتب الكاتب بكامل صوته في صحف غير محلية وبين أن يكتب ببعض من صوته مخنوقاً ومختلطاً بأصوات آخرين وتدخلاتهم من الحذف بل والإضافة أحيانا في صحف بلاده.
ليس هذا السؤال سؤالا في وارد جميع الكتاب على أية حال ولكنه نوع من الخيال الذي يراود الكاتب بين حين وآخر خاصة في اللحظات التي يكون في حنجرة الكاتبة/الكاتب ماء أو لا يكون فيها هواء كاف ليقول ما يحتمه عليه ضميره الوطني أو ما توصلت إليه محاولاته التحليلية لرؤية الواقع من زوايا مختلفة ولقراءة الصورة بتعدد أبعادها. فيفكر عندها في بدائل أشدها مرارة الكتابة في صحف بعيدة المنال على السواد الأعظم من مجتمعه, أما أحلاها فأن يدرك وطنه أن الصوت النقدي في قضايا التحول والاستقرار على صعيد الدولة والمجتمع ضرورة ملحة لنجاح وطني مشترك في الرخاء والشدة. بما يتيح المجال للخطاب النقدي دون تنتيف بنفس الأريحية المتاحة للخطاب الرسمي والخطابات المؤيدة له وسواهما من كتابة الرأي طالما التزمت بأمانة الكلمة.
****
يستطيع رئيس التحرير أولا, وكذلك القارئ أن يخمن دون صعوبة تذكر بأنني ترددت في كتابة موضوع هذا المقال ليس من باب أن للنفط أربابا وشعوبا تحميه مثلما رأى رب الإبل أن للبيت رباً يحميه, بل إن ترددي سببه خشية أن هذا المقال قد لا ينشر مثل سواه مما يحجب بين حين وآخر. وأكون قبلها قد توجست خيفة من ذلك بناء على تجربة معمرة في احتكاك جمجمتي بسقوف الصحف في مراوحتها بين ارتفاع خفيض وبين انخفاض مطبق. مما قد يكون عادة نتيجة لتحسب أو تقديرات رؤساء التحرير أو وزراء الإعلام لمجرى الرياح أو لمرسى السفن، وبما يأتي أحيانا باجتهادات تضييقية أو تيسيرية بحسب حسابات مثل كل عمل بشري قد تخطئ وقد تصيب.
****
والواقع أن الحديث أعلاه ليس إلا جزءاً من الموضوع الذي أرومه في هذا المقال بما أحاول التعبير عنه على صعوبته في السؤال التالي وما يليه من قول.
فما المعنى اليوم لاستمرار تضييق الخناق على ما يكتب في الصحف أمام هذا الخضم الواسع الشاسع من سيل الكتابات الإلكترونية الفضاحة بالمعنى الإيجابي للصراحة وبالمعنى الصحي للتعبير في العلن إلا إذا كنا نريد أن ينفض سامر كتابات الرأي التحليلية في الصحافة ومعه ينفض سامر الصحافة إلى الأبد. بما لا بد أن ينتج عنه ترك زمام الرأي عن بكرة أبيه بين سندان أحادية الخطاب الرسمي والكتابات المشيدة به (وهذا من حقها) وأيضا تلك المشغولة بإعادة إنتاجه في نسخ متعددة, يربط بينها أنها جميعا نسخ مستنسخة, وبين مطرقة الكتابات الانطباعية العجلى على (توتر) أو أي من وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني السريعة التي قد تنجح في تقديم مواقف انطباعية عن أحداث الساعة أو عن الحالات المزمنة إلا أنها وإن شكلت مؤشرا على رأي عام في قضية أو حدث -ما- لكنها لا تغني عن الحاجة لرأي تحليلي ورؤية إستراتجية لمثل تلك المواضيع، خاصة ما يعنى منها بصلب الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية للمجتمع.
والمصيبة في مثل هذا الواقع لو تركنا أنفسنا نقع في مأزقه إلى عظمة الترقوة بعد أن وصلنا إليه، إذ لامناص من نكران ذلك، هي أننا سنخرج من دائرة نصف العماء، التي كان يتسبب فيها السجال بين الرأي ومنعه، وتلك المناورات المقنعة والسافرة معا بين الكاتب والرقيب، بما كان يخرج مقالات الرأي في صحفنا إما مضمخة بالاعتذارية أو مدبجة بالمديح كمقدمة لتمرير رأي أو التعبير عن فكرة أو مسربلة بالغموض والارتباك جراء تنتيفها بيد كتابها وبقلم مجيزيها معا، لندخل إلى دائرة عماء عام.
وهذه «لعمري» كما تقول العرب ليست إلا مفارقة جارحة تضاد تلك المقولة الفلسفية التاريخية القائلة أنه كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة ليصبح اتساع الساحة ليس للرأي الرسمي وحسب بل وللمبالغة في إبراز كل أشكال تزكيته المطلقة مع اتساع مساحات القول الإلكتروني للتعبيرات الانطباعية أو المواقف المختزلة (على أهمية تلك النوافذ الإلكترونية), سببا في ضيق الرؤية أو تشتتها أو خفتها وخفوتها أو ضبابيتها إن لم يكن انعدامها, خاصة في غياب تعدد الرأي التحليلي العميق أو في استبعاد التفكير التمحيصي والتساؤلي والتعبير الحر عنه.
وأرى أن المواقف المصاحبة لقمة الرياض شعبان 1438هـ، مايو 2017م، تمثل بامتياز هذا الحالة التي نحن بصددها.
لقد تلونت مدينة الرياض بألوان العلم السعودي وبالعلم الأمريكي, وكما توشحت العاصمة بالأخضر والأبيض في كلمة لا إله ألا الله وباللونين الأزرق والأحمر, فقد تزين الإعلام السعودي والعربي بالبث المباشر لقمة الرياض ثلاثية القمم, القمة الثنائية وقمة خليجية وقمة العالم العربي والإسلامي, أما الصحف فقد تتوجت بالخطاب الرسمي وهذا في طبيعتها مطلوب ومشروع، بل ولقد كان مقبولا أيضا فتح الباب على مصراعيه لكل الكتابات المفعمة بنشوة الحدث، إلا أن المفقود كان بعض الكتابات التبصيرية بما للحدث وما عليه بميزان الحاضر وبحدس المستقبل سياسيا واقتصاديا.
ولذلك فقد تصدرت منصات التواصل الاجتماعي شتى الآراء الانطباعية المختزلة في محاولة قراءة الحدث قراءة غير رسمية أو قراءة تساؤلية أو قراءة نقدية إلا أنه نظرا لمحدودية مساحتها على انتشارها ونظرا لجدة التعبير العام من خلالها فقد وجدنا أن القليل منها قد نجح في تقديم تصور متبصر يحمل رأيا نقدياً أو تساؤلياً ولكن يتحلى بشرط الحرية وهو الموضوعية والأمانة وعدم الغوائية أو الغائية المتأدلجة.
لذا، أرى أنه على الأقل بعد انفضاض القمة وبعد فورة الحدث والفرح بنجاحاته, وبعد عودة الرئيس الأمريكي, لا بد لنا ولصحفنا وكل منافذ الرأي المسؤول الرصين من إتاحة الحرية لمشاركات وطنية واسعة لقراءة مسار الحدث ولمزيد من محاولة كتابة مستقبلنا ومستقبل الأجيال ومستقبل البلاد دولة ومجتمعا بأيدينا وباستبصار موضوعي شفيف. ولله الأمر من قبل ومن بعد.