د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
بعد فتور قصير اكتشفت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية أن افتراق مصالحهما فيه الكثير من الخسارة للجانبين. كانت بعض إدارات أمريكا السابقة، وعلى وجه الخصوص إدارة أوباما، مخطئة عندما اعتقدت أن علاقة المملكة العربية السعودية وأمريكا قائمة على الحاجات النفطية فقط. وتأكد هذا الخطأ بشكل أكبر عندما تحولت أمريكا من بلد مستورد للنفط لبلد مصدر له. اعتقد الأمريكيون لوهلة أن هناك مصلحة لهم للانكفاء المؤقت للداخل بعد أن خاضوا حربين متتابعتين أحيطتا بكثير من الجدل السياسي الداخلي. اليوم هناك إدراك متنامٍ في أمريكا أنهم خسروا الكثير من نفوذهم ومصالحهم وهيبتهم جراء هذا الانكفاء ليس فقط في الشرق الوسط بل وفي آسيا أيضاً. وانتقد الإستراتيجيون الأمريكيون تخلي الإدارة الأمريكية عن حلفائها التقليدين وخاصة في الشرق الأوسط حيث تركت فراغاً سارعت قوى أخرى لمليء هذه الفراغ مما عقد الأوضاع بشكل غير مسبوق في المنطقة. وهنا أدرك الأمريكيون أن أهمية الحلفاء التقليديين تتجاوز بكثير المصالح النفطية أو المالية إلى مصالح سياسية واستراتيجية.
حافظت المملكة طيلة تاريخها الحديث على علاقات استراتيجية متميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية. علاقات بدأت اقتصاديًا عبر إنتاج النفط وتصديره، ثم تحالف سياسي وثيق في درء الخطر الشيوعي في المنطقة، وتتابعت الحروب في المنطقة ومناطق العالم الأخرى جراء سقوط النظام الشيوعي مما حتم تعاونًا أوثق. وكما قال سمو الأمير بندر بن سلطان في مقابلة له بعيد أحداث 11 سبتمبر، لم تعمل الولايات المتحدة الأمريكية بأي أمر يضر أو يمس المصالح السعودية طيلة تاريخ هذا التحالف. ولم تختلف المملكة مع الولايات المتحدة أبداً في أمر يخص المملكة، والاختلافات الوحيدة كانت حول قضايا عربية أخرى كالقضية الفلسطينية والدعم غير المحدود لإسرائيل.
والواضح أن عمق العلاقات الأمريكية السعودية لم يقتصر على السياسة والاقتصاد أو التسليح بل يتجاوز ذلك بكثير لما هو أعمق من أمور ثقافية وتعليمية وحضارية. فالولايات المتحدة هي من ساعد المملكة العربية السعودية في خطواتها الأولى للتطوير عبر شركة أرامكو التي خرجّت كثير من التيكنوقراط السعوديين المؤهلين الذين أصبحوا فيما بعد وزراء ناجحين ورجال أعمال بارزين أسهموا في تحدث بلادهم. وقد ساهمت أرامكو في مكافحة كثير من الأمراض المتفشية في المملكة مثل التراخوما والجدري وغيرها. ثم تلا ذلك بعثات مكثفة للدراسة في أمريكا في عهدي الملك خالد والملك فهد كانت نواة للطفرة العمرانية والاقتصادية الأولى، وتلا ذلك بعثات بمئات آلاف الطلاب في عهد الملك عبدالله أيضًا زمن الطفرة الثانية. وقلما تجد بيتاً سعودياً ليس به مبتعث سابق أو حالياً للولايات المتحدة. كما أن البنى التحتية السعودية، والمدن السعودية بنيت على نمط أمريكي، والاقتصاد السعودي عامة أشبه ما يكون بالاقتصاد الأمريكي.
اليوم يتجدد التحالف ويتعمق التعاون. ولعل الخبرة السعودية السياسية في الشأن الأمريكي التي تراكمت عقب عقود طويلة من التعاون، وإحساس الولايات المتحدة الأمريكية بضرورة استرجاع مصالحها في المنطقة دفعت في هذا الاتجاه. وليس أفضل من المصالح الاقتصادية المشتركة لتعميق هذا التحالف. السعودية وعدت بأفضلية أمريكية في الاستثمارات الخارجية، وأمريكا وعدت بدور أكبر في تحديث الاقتصاد السعودي.
وما يميز التحالف الأمريكي السعودي هذه المرة هو حرص المملكة أيضاً توسعة التعاون في المنطقة ليشمل دولاً خليجية وعربية وإسلامية وذلك لضمان استقرار المنطقة في المستقبل وتجنبيها مزيد من الحروب والانقسامات. وربما يكون المراقب الأكبر لهذه الاجتماعات هي إيران التي ستتأثر سلباً بالطبع في المستقبل لزيادة عزلتها مالم تدرك أن المضي قدماً في زعزعة أمن المنطقة سينعكس سلبا عليها وتبدأ في مراجعة مواقفها بشكل جذري. فالحرب على الإرهاب، بما في ذلك داعش والمليشيات الأخرى، ستطال بالطبع الدول الذي تدعمه بما فيها إيران وعملائها في المنطقة.
السعودية مرة أخرى تجني ثمار سياسة الصبر وطول النفس وبإدراك الدول من حولها بصحة رؤاها وسلامة مواقفها. وتبقى الأمور وللأسف في حالة سيولة سياسية وتغيرات متتابعة تتطلب الكثير من الحذر والحزم. فالحروب المتواصلة في منطقتنا استنزفت معظم مقدراتنا وبدون السلم ولم الشمل العربي والإسلامي ستواصل المنطقة النزف بشكل محزن على كافة الأصعدة.