د.عبدالله البريدي
من المفاهيم المغلوطة في عالمنا العربي أن الثقافة لا علاقة لها بالتنمية الاقتصادية؛ فهي على أحسن الأحوال أنشطة ومنتوجات متنوعة ذات أهداف فكرية وأدبية وفنية نبيلة، مع قدرتها على تحقيق بعض المكاسب الذهنية والجمالية في حياتنا. نعم، إن الثقافة الجيدة تحقق تلك الأهداف والمكاسب إن هي دعمت بشكل كاف، بيد أنها قادرة على أن تكون ضمن الذخائر التنموية الوطنية، أي أنه بوسعها أن تكون مصدرًا جيدًا من مصادر تنويع الاقتصاد الوطني شريطة أن نؤمن بذلك، ونتعرف على أسراره. أنا لا أؤمن بتسليع الثقافة كما هو الحال في سياقات المجتمعات الحديثة، ولكن بجعل الثقافة رافدًا تنمويًّا، يجب ثروات، ويخلق وظائف.. طبعًا بجانب أهدافها المجتمعية الكبرى.
حرر (جون هارتلي)، أستاذ وعميد كلية الصناعات الإبداعية بجامعة كوينزلاند للتكنولوجيا في أستراليا، كتاب «الصناعات الإبداعية» Creative Products. وفي هذا الكتاب ساق العديد من المؤشرات التي تؤكد أن المعرفة والأفكار تقودان عملية تكوين الثروة والتحديث في العقود الأخيرة، وأن التفكير الاعتيادي أو التقليدي في مجتمع المعلومات غير كاف على الإطلاق.. وفيه تأكيد جازم أن الإبداع سيقود التغير الاجتماعي والاقتصادي في هذا القرن. ويوضح (هارتلي) أن فكرة الصناعات الإبداعية تستهدف توضيح التقارب المفاهيمي والعملي بين الفنون الإبداعية (الموهبة الفردية) والصناعات الثقافية (النطاق الجماهيري) في إطار تقنيات إعلام جديد داخل اقتصاد معرفة، يستخدمها مواطنون مستهلكون تفاعليون جدد (ص 12). وقد ظهر مفهوم الصناعات الإبداعية في أستراليا أوائل التسعينيات من القرن الـ20، وقد تفاعلت معه بعض الحكومات الغربية بشكل جاد. ومن ذلك حكومة (توني بلير)؛ إذ أسست وحدة خاصة للصناعات الإبداعية في وزارة الثقافة البريطانية مع تأكيد الوزارة حتمية دعم وتشجيع الإبداع الناتج من (الملكية الفكرية) أو المتعامل معها. ومع الوقت أصبح التركيز بشكل أكبر على الصناعات ذات النزعة الفنية والثقافية وحقوق النشر (أي مع تركيز أقل على براءات الاختراع والماركات المسجلة التي تلقى اهتمامًا أكبر لدى وزارة التجارة والصناعة) (ص 160 - 158). وقد استعرض (هارتلي) بعض مؤشرات أهمية الصناعات الإبداعية في الاقتصاد الجديد، ومن ذلك ما يأتي:
- في عام 2001 قُدِّر صافي عوائد الصناعات الإبداعية الناتجة فقط من (صناعة حقوق النشر الأمريكية) بنحو 791 مليار دولار، وهو ما يعادل 7.75 % من إجمالي الناتج القومي. ويقدر عدد العاملين في تلك الصناعة بـ 8 ملايين، وتسهم في قرابة 89 مليارًا من الصادرات. وهذا يعني تفوُّقها على الصناعات الكيميائية والسيارات والطائرات وقطاع الزراعة والقطع الإلكترونية والحاسوب.
- أما في بريطانيا فقد قدرت عوائد الصناعات الإبداعية بـ 112 مليار جنيه إسترليني، ويعمل بها 103 ملايين، وتشكل ما يقارب 5 % من الناتج الإجمالي. وفي أستراليا تشهد تلك الصناعات نموًّا مطردًا، بلغ ضعف معدل نمو الاقتصاد كله.
وفي اتجاه يعزز الحديث عن الدور الخطير لمثل تلك الصناعات في هذا القرن يؤكد أحد مؤلفي الكتاب (ريتشارد فلوريدا)، أستاذ كرسي Hirst للسياسة العامة في جامعة جورج ميسون، أن الطبقة الإبداعية (فنانين وموسيقيين وعلماء) ستكون هي الطبقة الأكثر تأثيرًا، وأنهم سيفرضون أنماطهم في التنظيم والإدارة وساعات العمل. ومن المسائل المهمة في الكتاب أن (جون هوكنز) يلفت انتباهنا إلى أن نمو «الاقتصاد الإبداعي» يتطلب تغييرًا جذريًّا في طريقة «تفكير الحكومات» بشأن المشاريع التي تعتمد على «بيع الأفكار» كصناعات الإعلام والترفيه، مشددًا على أن «الإبداع ليس سهلاً ولا روتينيًّا. إنه نخبوي وتعاوني.. ومن الصعب تنظيمه» (ص 162)، مع التشديد على أن تلك المشاريع تحتاج إلى نمط جديد في الإدارة والمحاسبة والخدمات المالية والبنكية، وما إلى ذلك.
استخدمت منظمة اليونسكو مصطلح «الاقتصاد الإبداعي» Creative Economy، وأصدرت تقريرًا مطولاً حوله في عام 2013 (التقرير معنون بـ Creative Economy Report). في هذا التقرير المهم ركزت اليونسكو على مصطلح «الاقتصاد الثقافي» Cultural Economy، مع تشديدها على فكرة «الثقافة المحلية»، والدور الذي تلعبه كل مدينة في هذا الإطار، بحكم أنها تتوافر على مقومات أو لنقل خلطة سرية لإنتاج ثقافة ذات نكهة محلية خاصة.
في هذا التقرير الأممي وضعت اليونسكو نموذجًا مقترحًا للصناعات الثقافية والإبداعية، يمكن أن يكون منطلقًا جيدًا لبناء نموذجنا السعودي الخاص. نطالع في التقرير أن المنتوجات الإبداعية في عام 2011 تضاعفت مرتين - مقارنة بما كانت عليه في 2002 - وزيادة إسهامات الدول النامية بمعدل 12.1 % في الفترة ذاتها، مشددة على أن الثقافة والإبداع محرك تنموي كبير.
إنَّ دور وزارة الثقافة والإعلام محوري في تبني هذا المفهوم، وجعله قابلاً للحياة. لقد طالبت قبل سنوات عدة - وأعيد هنا مطالبتي للوزير الجديد للثقافة والإعلام - باستحداث وكالة خاصة للتنمية الثقافية والصناعات الإبداعية. هذه الوكالة ستكون معنية بإيجاد مزايا تنافسية مستدامة للمنتوج الثقافي السعودي بكل أشكاله (الكتب، الفن، الرسم والاستعراض...)، وجعله قابلاً للتسويق بشكل أفضل محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وتعظيم العوائد الاقتصادية المترتبة عليه، فضلاً عن عوائده المجتمعية الكبيرة.
لو اشتغلت وزارة الثقافة والإعلام في هذا الاتجاه فستكون قادرة على تفعيل دور الثقافة في التعبئة الاجتماعية الواجبة لبناء منصات قوية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك بناء «رأس المال الثقافي» و»رأس المال الاجتماعي»، ورفع معدلات الأداء والإنتاجية، وتعزيز «المنظومة الابتكارية الوطنية» National Innovation System.
بقي أن أهمس في أذن معالي الوزير الدكتور عواد بن صالح العواد بأن الأندية الأدبية منصات جيدة في هذا الاتجاه فيما لو تلقت الدعم الكافي ماليًّا وتنظيميًّا، مع هوامش حرية كافية؛ فهي مصانع منتجة لثقافة سعودية راقية في مجالات عديدة.
وفي هذا السياق لا أنسى التشديد على ضرورة اهتمامك الشخصي بملف الإعانات المالية التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - يحفظه الله - البالغة عشرة ملايين ريال لكل نادٍ؛ إذ لم يصرف منها إلا الربع فقط، وهو أمرٌ ملكي نافذ، وقد طبقته الجهات الأخرى بشكل كامل قبل فترة زمنية طويلة؛ ما يشدد على ضرورة التدخُّل لحل الإشكالات أو المعوقات البيروقراطية التي تحول دون تنفيذ هذا الأمر الملكي الكريم.
الوقت يدهمنا كثيرًا، وقد تأخرت الوزارة في جعل الثقافة رافدًا للتنمية الثقافية والمجتمعية وتنويع الاقتصاد الوطني. وأحسب أن الوزارة مطالَبة في سياق رؤية 2030 بأن تكون الوزارة فعّالة في هذا المسار. سيكون للوكالة الجديدة المقترحة دورٌ رئيس في نجاح الوزارة في هذا الملف، وسيكون لها دور محوري أيضًا في تقوية الذراع التخطيطية الاستراتيجية للوزارة في كل ما يخص الممارسات الثقافية والإعلامية على نحو يزيد من جودة المحتوى التخطيطي للثقافة والإعلام وانعكاساتها في الخطط والبرامج التنموية. آمل أن نسمع أخبارًا جيدة وسريعة؛ وبذلك تصنع معالي الوزير - مع زملائك - تاريخًا جديدًا للوزارة.