محمد بن عيسى الكنعان
فراق الأحبة مؤلم، ورحيلهم فاجعة، لأنه إعلان فعلي بنهاية اللقاء بهم، أو الجلوس معهم، أو الاستماع لصوتهم، إلا اللهم من طيف يزورك في المنام فيسلي نفسك المثخنة بجراحات الحزن، والعليلة بوحشة المكان. فتحتبس الدمعة في المقل حتى تفر من سطوة أناّت الصدر، لعلها تخفف من مرارة الفاجعة، التي تعتصر نفسك كلما تذكرت أولئك الأحبة، أو رأيت بعض أغراضهم، أو نظرت إلى أماكن جلوسهم، أو مررت بطرقات عبورهم، أو تردد في سمعك صدى أسمائهم، بينما يحاول ذهنك الشارد في خيالات المنام أن يستعيد ذلك الطيف الجميل إلى مشاهدات اليقظة، فتستدرك نفسك بواقع المحال، وتخفف الألم عنك بدعاء العلي القدير أن يرحمهم الله بواسع رحمته، ويجعلهم في عليين. وأن يتقبلهم قبولاً حسناً؛ وفيهم خالتي الغالية والسيدة الفاضلة أم موسى منيرة بنت عثمان الحماد، التي فُجعنا برحيلها صباح يوم الأحد، 19 رجب 1438هـ (16 أبريل 2017م)، بمدينة الأمير سلطان الطبية العسكرية بالرياض (المستشفى العسكري)، ثم نقل جثمانها الطاهر إلى مدينة حائل، حيث صلينا عليها ظهراً في اليوم التالي بجامع برزان، ودفنت في مقبرة صديان، جعل الله قبرها روضة من رياض الجنة.
نؤمن بقضاء الله وقدره، ونحمده سبحانه على كل حال، ولا نقول ما يُسخط الرب سبحانه جلّ علاه، ولكن هي تباريح نفس متألمة، وقلب مفطور، وعقل مصدوم تجاه تلك المرأة الكريمة، والخالة الحبيبة أم موسى؛ لأن مصابنا بفقدها عظيم، ورحيلها عن دنيانا خلّف فراغاً كبيراً، فقد كانت أماً للجميع، بسمعتها الطيّبة، وسيرتها العطرة، وحنانها الغزير، حيث كنا نجتمع حولها بعد كل صلاة جمعة، فنسعد بقربها، ويطيب المكان بجميل حديثها، وكثرة تهليلها وذكرها لربها، وصادق دعائها. كما كانت تسأل عنّا أكثر مما نسأل عنها، وتفرح بزيارتنا حتى وهي تحت وطأة الألم الذي لم يبرح جسدها الطاهر منذ سنوات. لذلك كانت تتحامل على نفسها، وتتحدى آلامها من أجل أن تلقانا يوم الجمعة، أو في الأعياد والمواسم الدينية، أو بالمناسبات الاجتماعية العائلية. وكأنها تقول لنا بطريقة غير مباشرة وبأسلوب مهذب: إن صلة الرحم هي الرابطة العظيمة، والقيمة الحقيقية في محيط العائلة الواحدة بعد رابطة الدين، خاصةً في أتون الحياة الصاخبة وأشغال الدنيا الكثيرة.
فأين تلك المربية؟ أين أم موسى؟ أين شمعة خوالي؟ هي أسئلة حائرة رغم أن إجاباتها حاضرة، فاليوم انقطع ذلك الصوت الخافت، المجلل بالحياء، والمعطّر بالتقى، والمفعم بأسئلة الأم الرءوم وهي تسأل عن الصغير قبل الكبير، وتدعو للغائب قبل الحاضر. لقد كانت - عليها رحمة الله - تتمتع بحضور بهي في أي مكان تحل به، كما لها مقام معتبر على مستوى الاجتماعات العائلية الكبيرة، فضلاً عن كونها من أعظم نساء الحماد قدراً وفضلاً. رحمك الله يا خالتي الغالية، مهما ذرفنا دموعنا مدراراً وتفطَّرت نفوسنا ألماً؛ لن توازي مكانتك في قلوبنا، ولن تبلغ قدرك في نفوسنا، ولن تغلب ذكرك في خواطرنا. فإلى جنة الخلد برحمة الله، وأن يكتبك و - أمي عليها رحمة الله - في زمرة نبيه عليه الصلاة والسلام.