نجيب الخنيزي
قيام كوريا الموحدة يعود إلى القرن الثامن الميلادي، وظلت محافظة على وحدتها حتى بداية القرن العشرين، حيث خضعت للنفوذ ثم الاحتلال الياباني. وإثر هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية تقسمت شبه الجزيرة الكورية إلى منطقتي احتلال أمريكي (في الجنوب) وسوفيتي (في الشمال)، وتكرس الانقسام منذ ذلك الوقت عبر قيام جمهورية كوريا الجنوبية الموالية للولايات المتحدة، وجمهورية كوريا الشمالية الموالية للاتحاد السوفيتي السابق.
اندلاع الحرب الكورية سنوات 1950 - 1953، كانت أولى ثمرات الحرب الباردة بين المعسكرين، وقد ألحق دمارًا شاملاً في شطري كوريا، وفيما ظلت كوريا الشمالية محكومة بنظام الحزب الشمولي الواحد وتكريس عبادة الشخص المتمثل بكيم إيل سونغ، قبعت كوريا الجنوبية تحت ظل ديكتاتورية استمرت حتى عام 1979.
اللافت أن ما سمى بالمعجزة الكورية الجنوبية تزامنت مع وصول الجنرال «بارك تشونغ هي» إلى سدة الحكم عبر انقلاب عسكري (1961)، وهو ما هز التصورات القارة في الأدبيات الاقتصادية والسياسية حول استحالة قيام تنمية اقتصادية، وتطور شامل ومزدهر في ظل وجود نظام غير ديمقراطي على النمط الغربي، وبالتالي فإن اقتصاد السوق، والليبرالية الاقتصادية تتطلب بالضرورة تحقيق الليبرالية السياسية.
وهو ما ينطبق أيضًا على المعجزة الاقتصادية الصينية اللاحقة التي لا تزال تحقق نجاحات مطردة في جميع المجالات في ظل تفرّد الحزب الشيوعي بالسلطة الكاملة.
وهناك تجربة الاتحاد السوفيتي السابق الذي انتقل في مدى عقود قليلة تحت قيادة الحزب الشيوعي من بلد شبه إقطاعي شبه مصنع متخلف، ليتحول الدولة كبرى بمنجزاتها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والعلمية الثقافية.
كوريا الجنوبية حتى مطلع الستينيات كانت تعد واحدة من أفقر دول العالم، وتفتقد للموارد والثروات الطبيعية، ولم يتجاوز معدل الدخل السنوي للفرد 80 دولارًا، وكانت تعتمد بالكامل على المساعدات الخارجية وبالأخص الأمريكية.
يمكن تحديد أهم العوامل في نهضة كوريا أنه يتمثل في الاقتصاد الموجه والتخطيط المركزي من خلال الخطط التنموية تحت إشراف الدولة، حيث أطلقت الخطة الخمسية سنة 1962، وتشكلت مؤسسة جديدة تحمل اسم مجلس التخطيط الاقتصادي للإشراف على التخطيط وتنفيذ الخطط. التي من أبرز ملامحها التحول من إستراتيجية الإحلال محل الواردات إلى التركيز على الصادرات، كما جرى تقوية البنوك الحكومية وتأميم المصارف الخاصة للتحكم في القروض.
الشركات الكورية التي كانت ضعيفة ولا تمتلك الرساميل الكافية وكانت بحاجة للدعم اشترطت الدولة عليها أن يكون هناك تعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص، وأن تحقق هذه الشركات دورًا حيويًا في مجالات الاستثمار الصناعي وفقًا لخطط التنمية الحكومية، مقابل تلقيها الدعم والحماية وغيرها من المساعدات المالية والتمويلات التفضيلية وضمان الدولة للقروض الخارجية وهو ما أدى إلى نمو الشركات وتوسيع مشاركتها في خطط التنمية الاقتصادية وسياسة التصنيع التي رسمتها الدولة ونتج عن هذا التعاون توسع كبير للشركات لتتحول إلى شركات عملاقة أسهمت في مضاعفة الصادرات من مختلف السلع.
ومع أهمية تلك العوامل غير أن العامل الرئيس يتمثل في تطوير الموارد البشرية وخصوصًا قطاعات التعليم التدريب والأبحاث والتكنولوجيا حيث ارتفعت نسبة الإنفاق على التعليم من 2.5 في المائة سنة 1951 لتصل إلى 23 في المائة في مطلع الثمانينيات، وبلغ عدد الطلبة الذين يتابعون دراساتهم في المعاهد والكليات التقنية والعلمية 70 في المائة من مجموع الطلبة في عام 1980، كما أرسل مئات الآلاف إلى الجامعات في الخارج، إلى جانب تطوير مجالات البحث العلمي، حيث تحتل كوريا المرتبة الرابعة في العالم في براءات الاختراع.
لا شك أن الدور الأمريكي لعب دورًا مساعدًا في التنمية الكورية الجنوبية، وذلك من خلال تقديم نموذج أفضل في مواجهة كوريا الشمالية، كما أن الحرب الأمريكية في فيتنام التي استمرت أكثر من عشر سنوات، تطلبت وجود إمدادات وتطوير قطاعات صناعية وخدمية حيوية قريبة من جبهة القتال، وهو ما توفر في الأيدي العاملة الكورية الجنوبية الرخيصة.
إلى جانب المنجزات الضخمة التي تحققت في كوريا الجنوبية، وخصوصًا إثر سقوط الحكم الديكتاتوري، هناك جوانب معتمة تتمثل في غياب التنمية المتوازنة بين المناطق، واتساع الفوارق الطبقية بين السكان حيث تحتل كوريا المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة على هذا الصعيد، ناهيك عن اتساع مظاهر الفساد ومعدلات البطالة وتراجع الأداء الاقتصادي، وبطبيعة الحال هناك المخاطر الأمنية المحدقة في ظل تفاقم التوتر في شبه الجزيرة الكورية وما حولها من جراء استمرار كوريا الشمالية في تطوير برامج صواريخها النووية.