د.عبدالله مناع
لم أفترق عن الصديق العزيز الأستاذ (محمد الفايدي).. منذ أن رحبت بانتقاله من صحيفته الأثيرة لديه (عكاظ).. إلى مجلة (اقرأ) للعمل في قسم الشؤون المحلية.. مشاركة مع زميله وصديقه الأستاذ (سالم مريشيد)، ليقدما معاً وبـ(مشاركة) بقية الزملاء أجمل صفحات (اللقطات المحلية) الإخبارية، والتي بدأت بصفحتين.. فـ(أربع).. فـ(ست).. فـ(ثماني) صفحات.. حتى غدت تلك اللقطات المحلية إحدى علامات (اقرأ)، التي تميزها عن سواها صحفياً.. إلى أن غادرت (اقرأ) بـ(الإعفاء) إلى دار البلاد للطباعة، وغادر هو (اقرأ) بـ(الاختيار).. إلى الشركة الوطنية لـ(توزيع) الصحف والمجلات والكتاب، ليكون مسؤولها الأول في (جدة).. أكبر فروع الشركة، لكن هذا الابتعاد الوظيفي.. لم (يفرق) بيننا، فقد كنت أكسره بـ(اتصالاتي) الهاتفية التي كان يرد على بعضها ولا يرد على أكثرها.. وبـ(اللقاءات) التي كانت تجمعنا في صالون الصديق العزيز الاستاذ محمد سعيد طيب.. كل ثلاثاء، والتي عرفت بـ(الثلوثية).. وقد غدا (الفايدي) أحد أصدقائه المقربين منه بعد أن أجرى معه أول وأجمل وأطول حوار في حياة (أبي الشيماء).. ضمن السلسلة التي كانت تنشرها (اقرأ) بـ(التناوب) أسبوعياً - آنذاك - تحت عنوان: (حكايتي مع..): مع (الأدب) مرة؟ ومع (الشعر) مرة.. ومع (التاريخ) مرة.. ومع (الآثار) مرة.. ومع (الإعلان) مرة، وهي الحلقة التي كان نجمها الاستاذ الطيب - مدير عام شركة تهامة للإعلان - إحدى كبرى الشركات الإعلانية وأهمها وأقدرها مالياً، التي كانت تدفع لأبرز الصحف وأوسعها انتشاراً مئات الآلاف من الريالات شهرياً.. وهو ما جعل (الفايدي) يسمي مدير عام تهامة (إمبراطور) الصحافة!! فكانت تلك المهاتفات واللقاءات معه تكفيه وتكفيني.. إلى أن أصبحت تجمعني به ليالي (السبتية) التي ولدت مع أحاديث الذكريات عن حياتي في (الصحافة)، التي كنت أسجلها مع الصديق العزيز الدكتور خالد باطرفي على رصيف مقهى (راندو) على شارع التحلية.. ثم انتقل تسجيلها إلى مقهى (سواريه).. وإلى أن تفضل أخي العزيز المهندس البترولي ورجل الأعمال بعد تقاعده المبكر الاستاذ عبد الباسط رضوان.. بدعوة حضور جلسات تسجيلها، والحوارات التي تنشأ حولها.. إلى منزله مساء كل (سبت)، لتستمر ليالي (السبتية) لـ(اثني عشر عاماً) وقد اتسعت دائرة حضورها.. لتشمل أعداداً من نجوم الصحافة والفكر والأدب، ثم توقف انعقادها في ذات المنزل.. نظراً لحاجة صاحبإجراء تعديلات معمارية جوهرية فيه.. حتى يستوعب أبناءه الذين كبروا وزوجاتهم، فكان أن عادت جلسات (السبتية) تبحث - مؤقتاً - عن مقهى يجمع شمل أعضائها.. إلى أن استقر قرارهم على مقهى (الفرنش ديلي) بفضل مخرج برنامج (نور وهداية) الاستاذ عبد الله رواس.. الذي كان يرد فيه الشيخ الجميل: علي الطنطاوي.. بورعه وسماحته الإسلامية.. على مشاكل واستفسارات مشاهدي ومشاهدات القناة الأولى، والإذاعي الموهوب الاستاذ عدنان صعيدي مدير إذاعة (نداء الإسلام) قبل تقاعده.. ليظهر الاستاذ الفايدي عضو (السبتية) الدائم والمحبوب في مقهى (الفرنش ديلي) بصحبة زميله التربوي الاستاذ أحمد حامد، الذي سيصبح عضواً في (السبتية) منذ تلك الليلة.. إلا أنه كان بادي التوعك من اضطرابات أمعائه و(وقولونه) العصبي القديم..!! اللذين أنفق في علاجهما الكثير من الجهد والوقت.. في الداخل والخارج دون فائدة.. وإلى أن تكفل بعلاجه في (بريطانيا) أحد كبار الشخصيات، ليصحبه صديقه: الصحفي المعتزل والشاعر الوطني الإِنسان الاستاذ عبد المحسن حليت.. في تلك الرحلة العلاجية الطويلة التي استغرقت عدة أشهر، ليعودا بعدها، و(الفايدي) بين بين: بين صحة يتوهمها.. ومرض نفسي يحفر في أعماقه، أحسب أسبابه كانت تتمثل في أمرين: عدم القبول به صحفياً متفرغاً - لدى كثير من رؤساء التحرير - لجرأته وربما حدته.. وبالتالي عدم السماح لكلماته بالوصول إلى قارئها..!! وهما أمران يعطلان من قيمته، ومكانته.. اللتين بناهما بـ(عصامية) نادرة!!
فـ(الفايدي).. الذي مات عنه والده - في أملج - وهو بين التاسعة والعاشرة.. فاقترح (أعمامه) أن يأخذوه معهم إلى (البحر)، ليصبح بحاراً أو صياداً ذات يوم.. فرفض وفضل أن يكون في معية (كافل يتمه) الشيخ مهنا القوفي.. ليأتي به إلى (جدة) ويدخله المدرسة.. ليحصل منها على (الابتدائية) بـ(الكاد)، والذي علم نفسه (الصحافة) من مفرق الصحف التي كان يحضرها الشيخ (القوفي)، وقد لف بها بعضاً من الخبز أو (السمبوسك) أو (المقلقل)، ومن تردده فيما بعد على دور الصحف في جدة، والاستماع إلى المخبرين الصحفيين وحكاياتهم.. ومن بعض القراءات التي كانت تتيحها له إمكاناته المادية المتواضعة.. استطاع في النهاية أن يجد وظيفة كتابية له في (المديرية العامة للزراعة)، ليقفز منها إلى محبوبته (الصحافة).. ويصبح مخبراً صحفياً (متعاوناً).. فمحرراً غير متفرغ، لتبرز مواهبه.. في كتابة تلك التحقيقات (الميدانية) عن (الشحاتين) و(سائقي التاكسي) وأصحاب محلات (البنشر).. بـ(انتحال) شخصياتهم، الذي تعلمه من الصحافة والصحفيين المصريين.. فكان لتلك التحقيقات الصحفية.. صداها الواسع بين القراء مما منحه فرصة تعيينه محرراً متفرغاً في أولى الصحف وأحبها إليه: (عكاظ).. بل وأُسند إليه الإشراف على الصفحة الأخيرة إلى جانب عمود صغير يكتبه فيها بعنوان (ملحوظة).. لتكون تلك الأيَّام من عمره في الصحافة.. هي أسعد أيَّامه، إلا أن حماسه وغيرته دفعاه.. إلى نشر خبر عن حفل زفاف أقيم لـ(قطة) تكلف عشرات الآلاف من الريالات!! فأثار نشره.. من كان يعنيهم (الخبر)!! لتقوم قائمة الأجهزة الرقابية على الصحيفة وعلى رئيس تحريرها الاستاذ رضا لاري.. مما دفعه إلى أخذ قرار بفصل (الفايدي) من المؤسسة كلها، فكان القرار موجعاً لـ(الفايدي) بصورة قد لا يتخيلها الكثيرون.. فقد كان بمثابة (الكارثة) على حياة الفايدي الصحفية!!
ورغم الجهود الشخصية التي بذلتها بحكم صداقتي لـ(رئيس التحرير)، وبذلها آخرون لـ(ثني) الاستاذ رضا لاري عن قراره.. إلا أنها لم تسفر عن إلغائه وعودة (الفايدي) إلى سابق عهده في (عكاظ).. وهو ما جعلني أرحب به في (اقرأ) لأداء ذات العمل - أخبار المجتمع والناس وأحاديث المدينة - ، مع عمود يكتبه، حمل عنواناً جديداً.. هو (كلام لا يهم أحداً)، فكان سعيداً.. بـ(انتقاله) وزمالاته الجديدة ومهامه التي كان يشاركه فيها صديقه الاستاذ سالم مريشيد: الصحفي التربوي الخلوق.. إلا أن تلك السعادة لم تدم طويلاً.. ليس بسبب (خبر) عن تكاليف زفاف (قطة) أخرى!! ولكن بسبب إعفاء رئيس التحرير.. الذي رحب به في (اقرأ)، ليخلفني الأخ العزيز الاستاذ أسامة السباعي.. الذي لم تتفق كيمياؤه مع (الفايدي) وأسلوبه وغيرته وحدته.. فكان أن قدم (الفايدي) استقالته، لتنتهي أيَّامه السعيدة في (اقرأ).. كما انتهت أيَّامه من قبل في (عكاظ).. لتبدأ ساعتها أزمته الحقيقية مع أمعائه وقولونه وحريته المسلوبة، والتي لم يُشف منها.. إلى يوم أن ودع دنيانا ورحل مأسوفاً عليه، ليكون فراقه.. أول وآخر وأقسى فراق تعرفه حياتي مع (الفايدي).
* * *
لقد كان (الفايدي) بحق.. عملة نادرة في صحافتنا.. التي غشيت معظمها في السنوات الأخيرة - وبكل أسف - لغة المجاملات والتطبيل والتلميع، التي لم يعرفها قلم (الفايدي)، فلم ينافق أو يداهن.. بل ولم يتوسل أو يتسول بـ(قلمه) طوال حياته الصحفية.. بل عاش أيَّامه صريحاً واضحاً شجاعاً جريئاً.. عفيف اليد، عزيز النفس، كريماً بين أهله وأصدقائه.. وهو ما أكسبه محبة الواعين من أبناء وطنه، إلا أن أنفته وصراحته.. حرمتا قلمه من حريته.. ليكون (خراجه)، هو ذلك الكتاب الوحيد (كلام.. لا يهم أحداً)، الذي تكفل بـ(جمع) مادته من أعداد (اقرأ)، وتصحيحها وتبويبها، وإخراجها في أرقى صورة.. صديقه الصحفي الشاعر الاستاذ عبد المحسن حليت.. ودون علمه، أما محاولاتي في حمله على كتابة (قصة حياته) منذ أن غادر (أملج) يتيماً وعارياً من كل شيء.. وإلى أن أصبح الصحفي المشاغب والمعروف.. بعنوان (صحفي.. من عرض الطريق)!! فلم يقدر لها النجاح.
فـ(وداعاً) أبا انتظار! ولتغفر لي محبتي التي تعرفها تأخري عن كتابة هذا الوداع في حينه.. بسبب مرض أصغر أبنائي ودخوله إلى المستشفى، الذي علمته في آخر ساعاتك، فـ (وداعك) أيها العزيز.. يرقى إلى مرتبة (فرض العين) بالنسبة لشخصي.. لا بُدَّ وأن يؤتى بعد شهر أو بعد عام.
رحمك الله.. وأسكنك فسيح جناته فـ {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.