ناصر الصِرامي
صعب أن تعيد كتابة سيرتك الأولى، لكن هناك أيضًا أمرًا مختلفًا تمامًا حين تبدأ بالكتابة عن سيرة مهنية مرتبطة بأشخاص آخرين، أو شخص استثنائي آخر بتميزه وخبرته وتفوقه وأبوته.
أستاذ أجيال، ربان ماهر، حافظ بجدارة على مهنة الصحافة من أن تزل لمستنقع الظلام، أو تكون مهنة المتناقضات، أو مهنة من لا مهنة له، أو أن تفقد دورها التنويري التقدمي، كما ولدت وكما مقدر لها أن تكون.
يبدو أنني أسترسل هروبًا من العودة للحزن، هروبًا من الرثاء والمواساة، هروبًا من بعض الوجع وبعض التقصير!
كيف يمكن أن أكتب الآن، وقد أخفقت طوال الأسبوع في المحاولة. أفكر في العنوان، لكن حتى العنوان لن يكون سهلاً، ولا بعض الذكريات بمحبتها وصدقها وألمها أو صراحتها.
الآن فقط قررت أن يكون العنوان نفس الاسم كما يحب أن يضعه «لقاء»، لكن حتى غياب تلك الزاوية محزن جدًّا جدًّا.
سأهرب للخلف. كنت أستعد للفصل الأخير في السنة الأخيرة الجامعية في قسم الإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. كان قسمًا حينها قبل أن يكون كلية.
دون مقدمات، وكما يفعل دائمًا وهو يجول بين المكاتب والأقسام وغرف التحرير (مكتبه فقط للاستقبالات الرسمية)، كان يقف فوق رأسي مباشرة، كنت حينها أكتب تحقيقًا صحفيًّا محليًّا عن (خطيئة الترهيب من الاختبارات)، بعد مقابلة طلاب ومختصين. سمعت صوته المميز فجأة بنبرة تشبه الأمر والإصرار والنصيحة:
(ناصر، لا تفكر بوظيفة أخرى بعد الجامعة إلا الصحافة، تبقى معنا، وظيفتك بانتظارك بعد آخر يوم في الاختبارات!)، قبل أن يضيف: (التحقيق الذي تعمل عليه جيد، ابحث عن رأي متخصص نفسي لتعزيز آراء المتخصصين).
أخذتها حينها على أنها عرض وظيفي قبل التخرج. الآن أقول بعد عشرين عامًا إنها كانت «نصيحة».. نصيحة معلم من ذهب، نصيحة بوظيفة غيَّرت حياتي للأبد!
لم أفاوض على عقد أو تفاصيله.. لكن كنت مستمتعًا بالعمل الصحفي، وهذا ما بقي من لذة ومتعة إلى الآن. لقد أهداني الأجمل في مسيرة حياة (أن تحب ما تعمل، وأن تعمل فقط على ما تحب ومع من تحب).
بعد أقل من سنتين عملت صحفيًّا متفرغًا بجريدة الرياض؛ لطموح التجربة والرغبة في الاستكشاف والإغراء، وقبل أن أرتب أو أفكر بأشياء إدارية كنت قد بعت سيارتي التي اشتريتها بفضل مكافأة الجامعة ومكافأة الصحفي المتعاون، إضافة إلى بعض الادخار من الأشهر الأولى كصحفي محترف، وقدمت لجامعة أمريكية متواضعة في ولاية فقيرة (وست فيرجينيا) لفك العقدة، دراسة اللغة «الإنجليزية»، التي لم أحصل إلا على قدر متواضع جدًّا منها طوال دراستنا في المرحلتَين المتوسطة والثانوية، وكذا الجامعية.
كانت العقدة، وربما الطموح، أكبر من أي تفكير آخر، أو رضوخ آخر، أو وظيفة، أو البقاء تحت القبة الآمنة. دخلت دون مقدمات على رئيس التحرير،
وقلت له: آسف، سأذهب لأمريكا.
قال: أنت موظف الآن!
قلت: أعرف، لكن سأذهب؛ أبحث عن اللغة.
صرفني من المكتب، ربما كان مصدومًا، ربما كان يختبر إرادتي.. لست متأكدًا حتى الآن!
أعدت الطلب كتابة، وأخبرته بأنني تخليت عن كل أشيائي، وأضفت للخطاب خطاب القبول لدراسة اللغة في ولاية المناجم الأمريكية!
أتذكر ملامحه جيدًا: نصف ابتسامة، ونصف قبول.. قال «اذهب ستة أشهر للغة ومكافأتك مستمرة»!
شكرًا أبا عبدالله..
رد بصوت حازم وصارم «ستة أشهر وتعود».
كان يومًا استثنائيًّا غيَّر حياتي تمامًا.. كان من بين وأبرز وأجمل هدايا حياتي على يد «تركي عبدالله السديري».
اكتشفتُ لاحقًا أنه منح الفرصة لعدد كبير من الزملاء.. إلى «لقاء».