د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
وحين ننظر في جهود المعاصرين العرب نجد أنهم أولوا هذه القضية عنايةً بالغة، خاصةً منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولعلَّ من أوائل مَن أشار إليها حسين المرصفي في (الوسيلة الأدبية) في سياق حديثه عن صناعة الشعر، رغم أنه لم يزد على ما جاء به ابن خلدون، ولم يُقدِّم تحليلا يمكن من خلاله الإفادة من ذلك في الوصول إلى معنى محدد للأسلوب، إلا أنه اهتم بالأسباب التي تؤدي إلى تنمية الأسلوب وتطويره، وبالعلاقة بين الأسلوب والشخصية، وأثر بعض الصفات النفسية والجسمية على بناء الأسلوب، كما تعرَّض إلى التلازم بين الأسلوب وغرض منشئه وأثر ذلك على المتلقي، أما طبيعة الأسلوب وماهتيه وعناصره المكونة فظلت غير واضحةً في ذهنه.
كما تحدَّث عن الأسلوب مصطفى صادق الرافعي في (إعجاز القرآن) وأمين الخولي في (فن القول)، إذ أوضحا كثيراً من الجوانب المتصلة به، خاصةً فيما يتعلَّق بدواعي اختلافه ووسائل تحسينه، إلا أنهما لم يخرجا بمفهومٍ واضحٍ ومحددٍ له، ولعلَّ من أسباب ذلك -كما يشير بعض النقاد- وقوع كل واحدٍ منهما بين تيارين مختلفين؛ تيارٍ قديمٍ متأثرٍ بالبحوث البلاغية العربية القديمة التي تربط الأسلوب بالجانب الشكلي، وتيار النقد الحديث المتأثر بالاتجاهات الحديثة التي ظهرت بداية النهضة، مما أدى إلى فقدان الموقف الذاتي والرأي الشخصي، واللجوء إلى أحكامٍ مضطربةٍ وتعريفاتٍ هلامية.
وفي (دفاع عن البلاغة) أفرد أحمد حسن الزيات فصلاً للأسلوب، إذ عرَّفه وتحدَّث عن طبيعة تكوينه، كما أشار إلى عناصره وخصائص الجودة فيه ووسائل تطويره، لكنه كان هو الآخر خاضعاً لتيارين: التيار القديم، وتيارٍ جديدٍ يمثِّله مجموعةٌ من الأدباء الأوربيين الشكليين من أمثال لابرويير وشاتوبريان وفلوبير، أما تعريفه للأسلوب فقال عنه إنه مظهرٌ من مظاهر الهندسة الروحية لملكة البلاغة، يُبرزها للعيان ويصل بينها وبين الأذهان، وينقل أثرها المضمر إلى الأغراض المختلفة والغايات البعيدة، ويُعرِّفه في موضعٍ آخر بأنه طريقة الكاتب أو الشاعر خاصَّةً في اختيار الألفاظ وتأليف الكلام.
أما توفيق الحكيم فقد احتفى بالأسلوب، وظلَّ يبحث عن معناه في حيرةٍ وتردد؛ بسبب تصارع التيار الشكلي القديم والتيار الحديث في تفكيره، فيذكر أنَّ الأسلوب أحياناً حُجَّة الكاتب الذي لا يجد ما يقول؛ لأنَّ الذي عنده ما يقول للناس يُخرِج بكلِّ بساطة ما لديه من كنوز.. لا يحفل بأسلوب التقديم ولا يتكلف الوضع المسرحي في الإعطاء إلا ذلك الذي يعطي شيئاً تافها! وواضحٌ أنه في حديثه عن الأسلوب لا يقصد به سوى طريقة أداء الأفكار والمعاني والصياغة اللفظية المنمقة المتصنعة، ومع ذلك فقد ظلَّ يبحث في حيرةٍ عن معنىً آخر له.
وبعد هذه الرحلة القصيرة يمكن أن نفهم الأسلوب منطلقين من المعنى اللغوي له الذي هو الطريق الممتد أو المسلك، وحقيقة الطريق تدخل فيه عدَّة اعتبارات، وتشترك في تكوينه عدَّة عناصر، تبدأ من فكرة الربط بين نقطتين، مروراً برسم صورةٍ ذهنيةٍ ملائمةٍ لهيئة هذا الربط وشكله، ثم باختيار المواد الصالحة المناسبة لتحقيق هيئة الربط وتنفيذ فكرته، وانتهاءً بوضع المواد الصالحة في أماكنها المناسبة.
إنَّ المتكلم - حين يقوم بإيصال أفكاره إلى الغير- يمرُّ بأربع مراحل:
أولها: توليد فكرةٍ من بين الأفكار المختزنة في ذهنه بغرض إيصالها إلى الآخرين، والهدفان اللذان يراد الربط بينهما هما: ذهن المنتج/المتكلم، وذهن المتلقي/السامع أو القارئ.
ثانيها: تصوير عناصر هذه الفكرة ثم ترتيبها في الذهن على الشكل الذي يُراد إبرازها فيه، أي: هندستها وتصميمها داخلياً، وإعدادها للخروج من الذهن بشكل معين.
ثالثها: اختيار الألفاظ والعبارات التي تتلاءم مع ما يريد أن يوصله المتكلم من أفكار، أي انتقاء قوالب وتراكيب لفظية معينة من مفردات اللغة المختزنة في الذاكرة للصور والتراكيب المعينة التي صُمِّمت وبُنيت في الذهن أو جُسِّدت في الخيال.
رابعها: وضع الألفاظ والتراكيب اللغوية التي اُختيرت في صياغةٍ معينةٍ تتفق مع قواعد اللغة، وبهذا تتجسَّد الفكرة في إطارها الحسي، وتكتمل صورة الكلام الذي يُراد قوله.
هذا هو خلاصة ما ذكره الدارسون في الأسلوب، وبناءً عليه فلا يمكن اعتبار الأسلوب أنه الألفاظ أو المفردات اللغوية التي ينتقيها المتكلم من بين العناصر اللغوية المتاحة لديه ونطقها أو كتابتها، إذ ما هي إلا رموزٌ أو ظلالٌ أو قوالبُ للمعاني أو الأفكار، وليس الأسلوب أيضاً الصياغة الخاصة بهذه المفردات؛ لأنها لا تُصاغ إلا بعد أن يصوغ العقل معانيها ويُجسِّد ارتباطها في الذهن، وبناءً على هذا أيضاً فلا يصح أن نصف الأسلوب بأنه جيِّد لمجرَّد أن كان سليم الصياغة حسن الألفاظ جيد المعنى، إذ ربما كانت معانية جديدةً لكن ساذجة، أو لا تملك من صفات القوة والتأثير والنفع والجمال ما يستولي على إعجاب المتلقي ويحثه على التفاعل معها.
وختاماً.. فإنَّ دراسة الأسلوب من جذوره، ومن هذه المنطلقات اللغوية والعلمية والتاريخية، ومعرفة ماهيته وتصور عناصره ومكوناته، وأسباب جودته ووسائل تطويره، هو ما يساعد على تجويده وتحسينه لدى الكاتب أو الشاعر، أما أن نكتفي بوصف الظاهرة، ونقد الأساليب، وتوجيه الباحثين بمراجعة أساليبهم وإعادة كتاباتهم فأمرٌ قد لا يفيد كثيرا، ولا يُنتظر منه نتيجةٌ فاعلة، إذا ما أردنا حقاً أن نصل بإنتاجنا العلمي والأدبي والإبداعي إلى مرحلةٍ عاليةٍ من الجودة والإتقان في براعة العرض، وقوة الإقناع، وشدة التأثير، ولفت الانتباه، وإشاعة التفاعل.