مذ بدء الخليقة كان لزامًا على الإنسان مجابهة الطبيعة من حوله بغية حماية نفسها منها وتطويعها لمعيشته، وحين عجز عن الوقوف أمام بعض ظواهرها الكبرى لجأ إلى التعلق بعوالم خارجية وقوى خارقة تمنحه التوازن حيال واقع لا يستطيع مواجهته.
من هنا، نشأت الشعوذة وتكونت طقوس العبادة لدى الشعوب البدائية، وكان نشاط هذه الممارسات وركودها مرهونًا بالتقدم العقلي إلى حد كبير؛ ما يعني أن عهود الحضارات القديمة لم يكن الاحتكام للخرافة فيها مساويًا لما كانت عليه الشعوب البدائية؛ فحضارة اليونان القديمة مثلًا، رغم عنايتها بالأساطير والخوارق بقيت عقلانية، واتسمت بالتقدم العلمي الذي لا يمكن معه مقارنتها مع شعوب موغلة في السذاجة والممارسات الغريبة والتخلف العقلي.
ولأن حديثنا عن الأندلس والأندلسيين، فمعلوم أن حضارتهم في أوجها كانت منارة أوروبا كلها، ولا تكاد تعثر في تاريخهم زمن الصعود الحضاري على ما يشير إلى محورية الخرافة في ثقافتهم؛ ذلك أنهم لم يعانوا كبير مشكلة مع محيطهم تدفعهم لما هو خارجه، بل كانوا واقعيين إلى حد السيطرة على الواقع والإضافة إلى المعرفة الإنسانية في شتى المجالات.
لكن مع تردي الأوضاع في الأندلس واختلال موازين القوى فيها لصالح المعسكر المسيحي؛ وجد الأندلسيون أنفسهم أمام واقع مرير لا قدرة لديهم على التصدي له فضلًا عن تغييره. لقد تهاوت حواضرهم بيد المحتل وباتت مصائرهم على كف عفريت، ولم يكن في واقعهم السياسي ما يعين على التفاؤل بعودة الماضي الجميل، فبدأ انفكاكهم عن الواقع، وكثر لديهم ما يجسد ذلك؛ كتنامي الأربطة الدينية ووضوح الممارسات الصوفية خاصة في القرن السابع الهجري وما بعده. ناهيك عن ولعهم باتخاذ الرموز والحجب الجالبة للحظ والدافعة للشرور، ليكون ذلك شاهدًا أمينًا على التحول باتجاه فضاء حالم يخلصهم مما عمر قلوبهم وعقولهم من ريبة وإحباط.
ومن أليم المفارقات أن تكون المدائح النبوية في عصور الأندلس المتأخرة نموذجًا صارخًا لما وصلت إليه الذات الأندلسية من تردٍّ ثقافي وحضاري.
في هذه المرحلة استجد لدى الأندلسيين الاحتفال بعيد المولد النبوي، ليصبح مناسبة سنوية تحظى بتعبئة شعبية ورسمية على نطاق واسع. ولقد غدا موضوع المدائح النبوية غرضًا مستقلًا من أغراض الشعر والأدب الأندلسيين، ونما شعور بأنه نوع من الواجب الديني والمجتمعي فكثر فيه النظم والنثر. ولسنا بصدد الحديث عن أثر أعياد المسيحيين فيه ومبالغاتهم في شخص المسيح عليه السلام، أو كيف تمكنت منه النزعة الصوفية الفلسفية التي ترقى لحد المصادمة مع أصل العقيدة الإسلامية؛ بل الأمر يعنينا من حيث ارتهن بمصير إنسان تلك الأرض وقضيته الوجودية بالدرجة الأولى.
إن انحسار القدرة على مواجهة الواقع عند الأندلسيين دفعهم لصناعة ملاجئ بشرية لأنفسهم، تخطّى النظر إليها حدود الرمزية المعقولة إلى خلع صفات إلهية وقدرات خارقة عليها. والحال مع شخص النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أنه لم يعد لديهم بهيئته الإنسانية؛ يموت كما يموت الناس ولا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، بل نصبوه ملاذًا يُهرعون إليه من نكبات الحاضر ودسائس المستقبل، مؤمنين بأنه حي يسمعهم ويراهم وسيأتي يومًا ليخلصهم مما هم فيه. وهذا يقتضي أن يجردوه أولًا من حالته البشرية ليكون ملائمًا لاستيعاب ما سيلحقونه بشخصه من خرافات وأساطير؛ فكان تذرعهم أولًا بأحاديث مشبوهة مثل: «كنتُ نبيًا وآدم بين الماء والطين» و «يا محمد، لولاك ما خلقت الأفلاك» لتجعل من شخصه علة الكون والوجود، ولتخرجه عن منطقية الخلق وشبهية الناس بأسبقيته على أبي البشر آدم!
ولأن الأمر هكذا، فالقياس السليم يحتم عليه-وهو السابق في الوجود على جنسه البشري- أن يكون له بقاء لاحق لا يموت معه ولا يفنى. ولأن وجوده أزلي وأبدي، فهو ذو قدرات خاصة، ولعل في معجزاته المأثورة ذريعة أخرى لاعتبار الخوارق ملازمة لشخصه على امتداد الأزمنة.
وليس الهدف هنا تتبع هذه الخوارق، أو تعقب الفكر الصوفي المتبني لها؛ بل لنستبين كيف تقاصرت العقول واستسلمت للخرافة، لتنتهي معزولة عن الواقع، مشدودة إلى زمن منصرم ومكان قصي. لقد امتلأت الذاكرة بعصر النبوة ومسالك الجزيرة العربية، وشاع الحج الذهني، واتصلت الرسائل من العاجزين عن الرحلة إلى البقاع الطاهرة تحملها القوافل لتتلى على قبر الرسول، مزدانة بالاستجداء والاستغاثة وكثير من الوهن والانقباض!
وحين حل القدر المحتوم وأصبحت الأندلس أثرًا بعد عين، جار الواقع على بنيه وأصبحوا غرباء عنه وغرباء فيه، وهنا اشتد التعلق بالغيبيات والتشبث بالأعاجيب، ففشا عند الموريسكيين نمط من الحكايا المؤسطرة عن الصالحين ومغامرات الأفذاذ، وتملكتهم بطولات علي بن أبي طالب وسيفه الذي يضرب به الأشرار فيقسم الرجلين نصفين، وشاعت أحدوثة الإسراء والمعراج وما فيها من خوارق عمقت فيهم الشعور بالقدرة اللا معتادة التي تعوضهم عن فشل الواقع.
والحاصل أن الأندلس ضاعت ولن تعود، ولم يدركهم سيف علي بن أبي طالب ولا دُرة عمر بن الخطاب، وتعرضوا لأبشع صور التنكيل والتمثيل، وتوارثوا مرض الانفصام والخرافة جيلًا بعد جيل وتعادوا به وجعلوه جزءًا من الدين حتى صاروا عالة على الواقع والمستقبل وعلى الحياة برمتها.
إن الروحانيات لا تعني أن تكفر بالواقع، كما أن معنى المادية ليس الانسلاخ من الجوهر، وقوام المدنية والحضارة في مقدار التوازن بينهما، وسقوطها ليس إلا قطع الخيط الرفيع الواصل بين هذا وذاك.
- صالح عيظة الزهراني