د. عبدالحق عزوزي
ماذا يقع؟ في الآونة الأخيرة حدثت واقعتان اثنتان ما زالت تداعياتها ترخي بظلالها على جدران النظام العالمي وأمنه ومحدداته. أما الأولى فتتعلق بمجموعة قراصنة معلومات مجهولي الهوية، قامت مؤخراً، بهجوم واسع، وصفته بعض التقارير بالهجوم العالمي، الذي أسفر عن تضرر مؤسسات في العديد من دول العالم. أما الثانية، فتتعلق بما كشفته صحيفة «واشنطن بوست» على أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وخلال لقاء عقده في الآونة الأخيرة في المكتب البيضاوي مع سيرغي لافروف تطرق إلى معلومات استخباراتية تتعلق بعملية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» يجري إعدادها. وهذه المعلومات وصلت لواشنطن عبر شريك للولايات المتحدة لكنه لم يعط الإذن بتقاسمها مع موسكو. وبذلك عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجددا ليكون محور جدل، فيما حاول البيت الأبيض احتواء الأمر رغم أنه بقي مبهما حول جوهر المسألة.
هاتان المسألتان تحيلنا أولا إلى أمن الإنترنت الذي أضحى من الخصائص المباشرة لعمل أجهزة الأمن القومي ومصالح الجيوش ووزارات الدفاع التي تضع خططاً واستراتيجيات لحماية أمن شبكاتها الإلكترونية، ثم ثانيا إلى الأمن الداخلي وأيضا إلى مسألة السيادة وحماية الدولة من عمليات التجسس.
نتذكر في عهد الرئيس أوباما، وفي سابقة من نوعها، أن القضاء الأميركي بادر بمحاكمة خمسة جنود صينيين بسبب القرصنة الإلكترونية والتجسس الاقتصادي... والجنود كما جاء في بعض التقارير الاستراتيجية الأميركية هم أعضاء في وحدة مسماة «الوحدة 61398 للجهاز الثالث لجيش التحرير الوطني». وهؤلاء الجنود الخمسة اتهموا بأنهم من سنة 2006 إلى سنة 2014 تولوا سرقة أسرار تجارية لشركات أميركية عملاقة تعمل في مجال الطاقة النووية والمتجددة وغيرها، كما أن الخروج العلني لكبار المسؤولين الأميركيين وتدخل القضاء الأميركي هو دليل على التذمر الكبير والخطر الواضح لحرب جديدة لم تعهدها البشرية من قبل وخاصة إذا كانت تشرف عليها أجهزة دولة بعينها.
والتجسس مسألة قديمة قدم الدبلوماسية الكلاسيكية، ولكن هذه المرة تستعمل شبكات التجسس أدوات وتقنيات حديثة يصعب احتواؤها، وتقع في مواطن لا تخطر على بال أحد... فوجود الوحدة 61398 كان من اكتشاف الشركة الأميركية للأمن «مانديانت» Mandiant الذراع الاستشارية للحكومة الأميركية، التي استطاعت بعد مجهود مضن اكتشاف تواجد الوحدة في شنجهاي في مبنى من اثني عشر طابقاً، ويعمل فيه الآلاف من الجواسيس والخبراء المدربين... وأوضحت شركة «مانديانت» أن الاقتصاد الأميركي يفقد ما بين 24 ملياراً و120 مليار دولار سنوياً بسبب القرصنة الإلكترونية الصينية.
وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة هي هنا بمثابة الضحية، فلها هي أيضاً من القوة التقنية والملَكة والسبق العنكبوتيين ما يمكنها من التجسس على العالم بصمت ودراية مستعملة أماكن يصعب التنبؤ بها، وقد كشف عن بعضها عميل المخابرات الأميركي الهارب أدوارد سنودن؛ إذ تنصتت أميركا شهرياً على سبعين مليون مكالمة في فرنسا وستين مليون مكالمة في إسبانيا مستعملة السفارة البريطانية في ألمانيا، مع العلم بأن للولايات المتحدة سفارة في ألمانيا...
ولا غرو، أن ما قام به الرئيس ترامب مع روسيا إذا ثبت ذلك فإما إنها خدعة ومراوغة استراتيجية أو إنها قلة تجربة في عالم تسيير الدولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية وهذا ما سيحدث زوبعة سياسية في أمريكا لأنها مسألة تتعلق بالسيادة وبأدنى شروط تسيير الدولة وحماية المصالح العليا للبلد... كما أن الهجمة العنكبوتية العالمية لا أظنها ستتوقف، والأشهر المقبلة ستنذر بهجمات متتالية لأنها سهلة ولأنها تنبعث من عالم افتراضي يصعب تحديد مكان قطاع الطرق فيها...
ومن هنا يكون عمل الاستراتيجي عملا ناجحاً إذا فهم طبيعة البيئة الاستراتيجية، وبنى استراتيجية تتسق مع هذه البيئة، بحيث لا يُغفل طبيعتها، ولا يستسلم للأطراف الأخرى، أو للمصادفة. وقد وُصفت طبيعة البيئة الاستراتيجية مرات عدة، من قبل سلطات مختلفة، ويُشار إلى هذه البيئة في منشورات وثقافة كلية الحرب الأميركية باختصار مكون من أربعة أحرف (VUCA)، وهذا يتضمن الوصف التالي: «نظام عالمي حافل بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ. وفي هذا العالم تكون قدراتنا للدفاع عن مصالحنا الوطنية وتعزيزها مقيدة بقيود مرتبطة بحجم الموارد المادية والبشرية. وباختصار، هذه البيئة تتسم بالتقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض». ودور الاستراتيجي هنا هو ممارسة النفوذ للسيطرة على التقلب، وإدارة الهواجس، وتبسيط التعقيدات، وكشف الغموض.