الكويت - خاص بـ«الجزيرة»:
حذّرت الدكتورة سارة ملتع نايف القحطاني أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الكويت من تفشّي الفتاوى الشاذة في المجتمعات لما تسبّبه من بلبلة وحيرة بين المسلمين، وتضعف ثقة الناس بالعلماء.
وقالت د. سارة القحطاني في حوارها مع «الجزيرة» أن غياب ثقافة الوقف في المجتمعات العربية من أهم أسباب ضعفه وضياعه، مؤكدة الحاجة إلى نهضة شاملة للوقف وقضاياه.
وتكشف الخبيرة الشرعية والمستشارة الأسرية أن ضعف الرعاية والتوجيه الأسري مع الفراغ الذي يعيشه الشباب من أسباب تدهور العلاقات الاجتماعية والمشاعر الإنسانية بين الناس، مشيرة إلى ضرورة دراسة الأسباب الاجتماعية وراء مشكلات العنوسة والطلاق والوقوف على الحلول المتاحة. ويتناول الحوار مع د. سارة القحطاني ذات الخبرات العلمية والعملية عددا من القضايا الشرعية والاجتماعية.. وفيما يلي نص الحوار:
* لكم رسالة علمية بعنوان: «أثر المقاصد الشرعية في التنمية الاقتصادية».. ما أبرز ما خرجتم به من توصيات؟
- كان من أبرز ما خرجت به الرسالة من توصيات:
1- توجيه المزيد من الجهد والدراسات والأبحاث في تحديد المقاصد الشرعية للاقتصاد عموماً - في الفقه الإسلامي - والتنمية الاقتصادية خصوصاً، لتتضح وتنضبط - بعد الجهود والدراسات والأبحاث الكافية - الصورة الكاملة للاقتصاد الإسلامي من حيث المقاصد والوسائل كما هي واضحة في المذهبية والنظام - نسبياً.
2- دعوة الباحثين في مجال الاقتصاد الإسلامي والقانون إلى توجيه الهمم لدراسة القانون الدولي في مجال التنمية مقارناً مع الفقه الإسلامي لإبراز كمال الشريعة ونزاهتها في معالجة الأمور، وقصور الجهد البشري من جهة، وإصلاح العيوب التي يمكن أن تستغلها مراكز القوة والسلطة في العالم في استبداد ثروات الشعوب وإهدارها من جهة أخرى.
3- دعوة الباحثين في حقل الاقتصاد الإسلامي إلى صياغة نظرية التنمية الاقتصادية في ضوء المقاصد الشرعية.
* كثرت الشكوى من الفتاوى العشوائية التي تبثها وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي،من وجهة نظرك كأستاذة متخصصة في الشريعة الإسلامية ما خطورة هذه الفتاوي غير المنضبطة على عقول الناس؟
- لابد أن نعلم أن الفتوى هي تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه، والفتوى من المناصب الإسلامية الجليلة والأعمال الدينية الرفيعة والمهام الشرعية الجسيمة التي يقوم فيها المفتي بالتبليغ عن رب العالمين ويؤتمن على شرعه ودينه، لذا وُصف أهل العلم والإفتاء بأنهم ورثة الأنبياء والمرسلين والموقعون عن رب العالمين، يقول ابن القيم: « وإذا كان مَنْصِبُ التَّوْقِيعِ عن الْمُلُوكِ بِالْمَحِلِّ الذي لَا يُنْكَرُ فَضْلُهُ وَلَا يُجْهَلُ قَدْرُهُ وهو من أَعْلَى الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّاتِ فَكَيْف بِمَنْصِبِ التَّوْقِيعِ عن رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ فَحَقِيقٌ بِمَنْ أُقِيمَ في هذا الْمَنْصِبِ أَنْ يَعُدَّ له عِدَّتَهُ وَأَنْ يَتَأَهَّبَ له أُهْبَتَهُ وَأَنْ يَعْلَمَ قَدْرَ الْمَقَامِ الذي أُقِيمَ فيه وَلَا يَكُونُ في صَدْرِهِ حَرَجٌ من قَوْلِ الْحَقِّ وَالصَّدْعِ بِهِ فإن اللَّهَ نَاصِرُهُ وَهَادِيهِ وَكَيْف وهو الْمَنْصِبُ الذي تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ رَبُّ الْأَرْبَابِ، فقال تَعَالَى: «وَيَسْتَفْتُونَكَ في النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وما يُتْلَى عَلَيْكُمْ في الْكِتَابِ «وَكَفَى بِمَا تَوَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ شَرَفًا وَجَلَالَةً إذْ يقول في كِتَابِهِ: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ في الْكَلَالَةِ»، وَلِيَعْلَمَ الْمُفْتِي عَمَّنْ يَنُوبُ في فَتْوَاهُ وَلِيُوقِنَ أَنَّهُ مسئول غدًا وَمَوْقُوفٌ بين يَدَيْ اللَّهِ».
وإذا كانت الفتوى بهذه الأهمية، فإنها من الخطر بمكان إذا تولاها غير المؤهل، أو تتبعت وسائل الإعلام الفتاوى الشاذة التي تعد من زلات العلماء، بل إن بعض وسائل الإعلام تتخذ من تلك الفتاوى الشاذة سبيلاً لتوجيه الفكر العام إلى نمط معين من الأفكار والتوجهات، ولا شك أن مثل هذه الفتاوى تشكل خطراً على الأمن الفكري للمجتمع من جهة وعلى الدين من جهة أخرى، ومن أهم صور ذلك:
1- أنها تؤدي إلى حصول البلبلة والحيرة بين المسلمين بل وتقوض وحدة الصف أحيانا، وذلك أنها تنتشر في وسائل الإعلام والتواصل انتشاراً واسعاً يصعب معه إزالة أثرها بسهولة، أو قطع دابرها أو توضيح الخطأ فيها على الوجه اللازم.
2- ضعف ثقة الناس بالعلماء، وزعزعة مكانتهم في النفوس بل والتشكيك في قدراتهم ونزاهتهم. فلا أثر أصعب في النفوس من ذلك، وهذا يقود الناس إلى اعتزال سؤال أهل العلم، أو السخرية بأحكام الشرع، بل قد يتخذه الأعداء وسيلة للطعن في الدين وأهله، ويستغله المنافقون للانحلال من الدين بتتبع الفتاوى الشاذة من جهة، وللضرب في أصول الدين من جهة أخرى.
3- انتشار مسلكي التشديد والتساهل في الفتوى بين الناس: فقد جرت العادة الغالبة في موقف الناس - ومنهم العلماء - من القضايا المطروحة على العقل البشري أنهم طرفان ووسط، ومن تلك القضايا: مسألة الفتوى ففريق سلك مسلك التشديد وفريق سلك مسلك التيسير من غير ما ضابط، وعز الوسط وهم الذين يعملون بالتيسير في مواطنه وحيث وجدت أسبابه.
4- اختيار العوام من تلك الفتاوى ما يوافق أهواءهم وطبائعهم أو عاداتهم، من دون التحقيق في موافقة الفتوى للدليل الشرعي.
5- تعتبر تلك الفتاوى ذريعة لوقف شعيرة إنكار المنكر والأمر بالمعروف، إما لتضارب الفتاوى فيظن بعضهم أن ذلك الخلاف سائغ ولا إنكار في مسائل الخلاف، أو تكون تلك الفتاوى ذريعة لتهاوي الدين وقدسيته في نفوس بعضهم مما يجعله يطالب بالحرية بلا سقف.
ولا شك أن مثل تلك الفتاوى تخدم أهداف بعض وسائل الإعلام الموجهة لهدم الدين أو التغرير بالعقول وتحريف الفطر السليمة وقبول غير المعقول.
وقد كان من رأي أبي حنيفة الحجر على المفتي الماجن، قال الكاساني في بدائع الصنائع: «روي عن أبي حنيفة أنه كان لا يجري الحجر إلا على ثلاثة: المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس؛ لأن المنع عن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المفتي الماجن يفسد أديان المسلمين، والطبيب الجاهل يفسد أبدان المسلمين، والمكاري المفلس يفسد أموال الناس في المفازة، فكان منعهم من ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
* بعض العلماء والمعنيين بالمشكلات الاجتماعية يطرحون تعدد الزوجات كحل لمشكلة العنوسة والطلاق وغيرها في بلادنا العربية، هل ترين أن التعدد يمكن أن يحل المشكلة أو يسهم في حلها؟
- لا شك أن أحكام الشرع كلها مصالح للعباد، وأن التعدد مباح في الشريعة الإسلامية بشرط العدل، إلا أني لا أرى وجه الربط بين التعدد كحكم شرعي ومشكلة العنوسة أو الطلاق، إذ العنوسة والطلاق مشاكل اجتماعية بالاعتبار الأول، فلابد إذا من دراسة أسبابها الاجتماعية للوقوف على الحلول المتاحة. نعم، قد يطرح التعدد كحل جزئي في بعض الصور لكنه ليس الحل في كل الصور، في بعض الصور يكون التعدد في حد ذاته سبب المشكلة الاجتماعية.
* لماذا تدهورت العلاقات الاجتماعية والمشاعر الإنسانية بين الناس، ولم نعد نرى أثرا لقيم الرحمة والعفو والحياء في تعاملاتنا اليومية؟
- أظن أن التعميم هنا غير صائب، فليس الأمر على إطلاقه، فلا زال الخير في الناس، إلا أنه من الملاحظ وجود ما تفضلت به ولعل ذلك يرجع لعدد من الأسباب، منها:
1- تكالب الناس على الدنيا وإقبالهم على زخارفها.
2- ضعف الوازع الديني.
3- دور وسائل الإعلام الغربية - الرأسمالية - في منظومة القيم الموجهة لغرض الانحلال الأخلاقي والتحرر الفكري والتغييب العقلي.
4- ضعف الرعاية والتوجيه الأسري، إضافة إلى انحسار الدور التربوي لباقي مؤسسات الدولة كوزارة التربية والشباب وغيرها.
5- الفراغ الذي يعيشه الشباب من دون مشروع هادف يحتويه أو يتبناه من جهة ومن دون تحصين فكري واجتماعي من جهة أخرى.
6- قلة الوعي بأهمية الروابط الاجتماعية والمنظومة الأخلاقية في ضوء تعاليم ديننا الحنيف.
7- انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، على نحو سلبي في ظل الانفتاح المعلوماتي الهائل بغير ضوابط رقابية تمارس على الأطفال ومن غير توجيه وإرشاد لفئة الشباب.
8- غياب القدوة الحسنة في بعض الميادين، واستبدالها بالقدوة السيئة المتاحة في وسائل التواصل الاجتماعي.
* يلاحظ ضعف التخطيط الدعوي للعمل النسائي وغياب النظرة الاستشرافية للمستقبل، ثم ضعف تنسيق الجهود الدعوية النسائية.. رأيكم؟
- لقد شهدت الساحة الدعوية النسوية في الفترة الأخيرة بداية صحوة تنظيمية، واهتماما بالتخطيط الدعوي، لكنها لا تزال تحتاج للكثير من العمل على هذا الجانب، وتخطيطاً أكثر دقة، وكل ما تفضلت به صحيح، ولعل ذلك يرجع لعدد من الأسباب أهمها:
1- يمثل العمل الدعوي النسوي في كثير من أحيانه؛ رد فعل للمشاكل التي يعيشها المجتمع، فهو يحل المشاكل الاجتماعية الآنية، وغاب عنه التخطيط قصير المدي وبعيد المدى للنهوض بالمجتمع نحو قيم أخلاقية معينة أو تحصين فكري محدّد والوصول به إلى حد أدنى من ذلك، ومرجع ذلك انعدام الشمولية في وضع الأطر الكلية لاستيعاب مشكلات الدعوة وغياب المنهجية السليمة والضوابط الواقعية والأهداف الواضحة.
2- المشغلات الحياتية والاجتماعية، وجعل الجانب الدعوي فضلة قياساً بالجوانب الاجتماعية الأخرى، وتقديم الأعمال الشخصية على الدعوية، ويرجع هذا إلى صعوبة توفيق المرأة الداعية بين العمل الدعوي والواجبات الأسرية والالتزامات الاجتماعية والوظيفية.
3- قلة العلم الشرعي والفقه بالواقع الدعوي، و الاعتماد على الدافع العاطفي للقيام بالعمل الدعوي، وعدم الرغبة في تجديد الوسائل الدعوية والاستفادة من التقنية الحديثة في خدمة الدعوة.
4- تسلط بعض الآداب الاجتماعية السلبية التي تجعل المرأة قاصرة عن العمل الدعوي من مثل: اعتقاد المرأة المسلمة أن الدعوة خاصة بالرجال دون النساء، وتصور بعض النساء أن دعوة المرأة لا تتم إلا في إطارها الاجتماعي الضيق، وعدم إذن ولي أمر المرأة، وعدم فهم المراد الصحيح من أمر الله سبحانه المرأة المسلمة بالقرار في البيت.
5- تشتّت الجهود بين مؤسسات العمل الدعوي النسوي، لانعدام الجهة المنسقة والمتخصصة في إدارة العمل الدعوي النسوي من جهة، ولانعدام الدليل الإرشادي للميادين الدعوية النسوية من جهة أخرى.
6- ظهور بعض المشاكل الإدارية في بعض مؤسسات العمل الدعوي مثل: تسلط الرئيس المباشر أو ضعف التعاون بين الموظفين أو عدم تقيد الموظف بالأوامر الإدارية العليا، إضافة إلى انخفاض كفاءة الداعيات في جانب التنفيذ. وقلة الإمكانات البشرية والمادية ناهيك عن المشاكل المعتادة في الطبع البشري التي تصيب الداعيات من مثل: الكسل والفتور، الغيرة، استعجال الثمرة، كيد بعض المدعوات، وغيرها.
* تضاءل الاهتمام بالوقف،وانحساره في جوانب معيّنة.. ألا ترين أن غياب ثقافة الوقف في المجتمعات العربية وراء ضعفه وضياعه؟
- لا شك أن الدين الإسلامي دين رباني يحقق مصالح العباد في الدارين، والوقف يظهر هذه الحقيقة في أبهى صورها، إذ الواقف يوقف ابتغاء أجر الآخرة، وينتفع بوقفه المجتمع ككل. ولا ريب إذا عرف ذلك أن يكون الوقف من مزايا المسلمين، بل كان للوقف الدور الرائد في ازدهار الدولة الإسلامية في شتى الميادين: الاقتصادية والعمرانية والتعليمية والصحية والاجتماعية وغيرها. بل كان له الدور الأكبر في حماية المجتمع الإسلامي من مشاكل الفقر، والبطالة، وقلة الموارد، وغيرها مما تستغيث منه باقي الأمم.
وما من شك أن غياب ثقافة الوقف في المجتمعات العربية من أهم أسباب ضعفه وضياعه، إلا أن ذلك الضعف لا يخص ثقافة الأفراد دون المسؤولين، ولا يخص ضعف الوعي في أساليب إدارته دون ضعف الوعي في التسويق لأهميته إعلامياً، ولا يخص ضعف التخطيط لاستثماره اقتصادياً دون ضعف الإيمان بأهميته سياسياً، بل هو ضعف يشمل ذلك كله.
ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى سلبية المجتمع نحو الأوقاف تعامل القضاء مع مشاكل الأوقاف وأخذه دورة زمنية كبيرة لحلها، أو الاعتقاد السائد ببيروقراطية الإجراءات الوزارية عند الوقف.
إننا نحتاج إلى نهضة شاملة للوقف وقضاياه، تحتل فيه قضايا إدارة ونظارة الأوقاف الاهتمام الأول، كما تحتل فيه قضايا التخطيط للوقف وسبل استثماره على الوجه الأمثل الاهتمام الأبرز، ليس ذلك فحسب بل لا بد من الوقوف وراء أسباب انحسار الأوقاف ومعالجتها بأسرع وقت سواء على مستوى الدولة أو على مستوى القطاعات الخيرية وغيرها.