منتصف الليل بتوقيت الطائرة المتجهة من دبي إلى طوكيو، جُّل من على متنها يابانيون عائدون إلى الوطن، ومهاجرون قرروا الانضمام إليه، وآخرون ذاهبون لاكتشافه، رحلة عمل مع فريق الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لاستطلاع الخبرة اليابانية في هذا المجال، يجلس بالمقعد المجاور لي رجل ياباني من أصول لبنانية، يقول إنه غادر بيروت إلى طوكيو منذ 25 سنة واستقر به المقام هناك ولم يعد يفكر بالعودة إلى الديار، لأن طوكيو -على حد قوله- المكان الأكثر ملاءمة للحياة على سطح الأرض حيث «الذوق الرفيع» و»احترام الإنسان»، جاملته بابتسامة مُصطنعة لإيماني التام بأن المُدن العملاقة دائماً ما تختزل الأخلاقيات وتحولها إلى أدوات مادية بحتة تحكم علاقة البشر بعضهم ببعض مهما كان تحضرها.
بعد رحلة طويلة وصلنا إلى مطار «ناريتا» أو كما يسمى ببوابة اليابان الدولية، المكان الذي شهد عند تأسيسه أحداثاً مثيرة انتهت بتشكيل اتحاد «سانريزوكا» لمعارضة بنائه عام 1966م بسبب عدم إشراك السكان في مرحلة اختيار وتخطيط الموقع الذي يرى أولئك السكان أحقيتهم ببقائه كأراض زراعية، إلى أن تم افتتاحه قسراً في عام 1978م تحت حراسة مشددة. الوقوف في منطقة إجراءات الدخول لم تتجاوز دقيقة واحدة، كان «الترحيب» السمة الرئيسة لبناء صورة ذهنية ذات إيجابية مفرطة عن اليابان بأكملها، وكان من الممكن جداً أن تكتشف مبكراً أنك على أرض يعمل سكانها «بإخلاص» من أجل الوطن.
الترسانة المتطورة للنقل العام من المطار وإلى أي مكان آخر في طوكيو ووضوح المعلومة للقادمين من الخارج يمنح الدرجة الكاملة لمعياريّ «نقل الحركة» و«سهولة الوصول» داخل المدينة وخارجها، في الطريق إلى الفندق لن تكون بحاجة إلى مزيد من الوقت لتستنتج أن ثمة «إدارة مدينة» على قدر كبير من الاحترافية عطفاً على نظام السير المنضبط وجودة البنية التحتية لشبكة الطرق وأسلوب فصل حركة المشاة عن المركبات ومواصفات أثاث الشوارع والمستوى العالي من جودة التنفيذ والصيانة لكل شبر من الأرض، جولة واحدة مشياً على الأقدام في أروقة أحدى المجاورات السكنية في طوكيو ستتيح لك فرصة نادرة أن تتعايش مع تجربة رائدة في أنسنة المكان وتلمس بصورة مباشرة وعملية كفاءة توزيع استخدامات الأراضي وتجانسها الوظيفي.
الوجهات الجاذبة في مدينة طوكيو تم ربطها عمرانياً ووظيفياً بشكل دقيق ضمن منظومة الأعمال داخل المدينة، مثل منطقة «غينزا» التي تشتهر بمحال تجارية فريدة، و»شينجوكو» التي أصبحت مركز المدينة الجديد، و»أساكوسا» التي تمثل حضارة «لإيدو القديمة»، و»شيبويا» التي باتت مقصد المدينة الأول، بالإضافة إلى مواقع أخرى مثل « أكيهابارا» المنصة الرئيسة لأجهزة الحاسب الآلي وبيع التجزئة للمنتجات الكهربائية، وكذلك منطقة سوق بيع الأغذية وتجهيزاتها في «تسوكيجي»، وحديقة «هيغاشي غيوئن»، ومنطقة «مارونوئوتشي» للأعمال التجارية، و»روبونغي» التي تحولت لمنطقة ترفيه ومركز للفنون والثقافة، ومنتزه ينابيع «مونوغاتاري» الساخنة، ونهاية بـ مواقع التراث الحضاري في التجمعات العمرانية المتاخمة لضواحي المدينة.
يجدر القول إنه وبالرغم من إمبراطورية التكنلوجيا التي تعتبر المولد الاقتصادي الرئيس للبلاد، إلا أن الأصالة والثقافة اليابانية التقليدية باتت حاضرة في كل الأماكن وطاغية على مشاهدها المختلفة، بل وتسيطر على كل تفاصيل الحياة بما تحمله من عادات وتقاليد وحضارة ممتدة منذ البدايات المبكرة لعصور نشأة أرخبيل اليابان. ثقافة «الذوق العام» كأسلوب حياة وسمات «الرقي والاحترام» في تعامل اليابانيين فيما بينهم أو مع الآخرين هي بمثابة «الإكسير» لسر حقبة التطور والتقدم التي منحت اليابان صفة «الكوكب الآخر»، خلاصة التجربة «أنت متحضر، بقدر ما تكون راقٍ في تعاملك مع الآخرين».
** **
المهندس بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن