د. محمد بن إبراهيم الملحم
رمى أطفال تبوك الكتب في الشارع وأعفى الوزير المدير فورا واستشاط كل الناس تقريبا وضجت السوشيال ميديا بتعليقات شامتة ساخرة وأخرى رصينة ووجيهة تنضح من خبرة وتنعي الحكمة الضائعة في سياق قرار متعجل قبل التحقق ورؤية الأمور من نصابها.
ومن الواضح أن الميدان التربوي محتقن من النهج الإداري النمطي لوزارة التعليم، ومع أن هذا حال أغلب الوزارات باعتبار تماثل الـ»ستايل» القيادي للمسؤولين بعدم حمل تبعة المسؤولية الحقيقية وإلقاء اللوم على من يلومهم سواء كانوا موظفين أو حتى مواطنين (مراجعين) إلا أن الوضع يتأزم أكثر في مجال كالتعليم حيث يفترض أن قيادة العمل فيه تقوم على الجانب الإنساني لا بيروقراطية التعليمات والأمر والنهي ، ذلك أن المدرسة محضن أسري ينبغي أن تتوفر فيها للعاملين كل مقومات الأمان والتحفيز للعطاء ، لا سياط التهديد بالإعفاء أو النقل.
الأساليب الإدارية ينبغي أن تتمازج مع الروح التربوية المطلوبة داخل الفصل فلا فرق بينهما وهذه الفلسفة غاب نجمها منذ رحيل آخر تربوي محنك قاد هذه الوزارة الأستاذ الدكتور محمد الأحمد الرشيد رحمه الله والذي كان يوما في زيارة ميدانية لمدرسة فلم يجد مديرها متواجدا فترك له ورقة على مكتبه «زرناك ولم نرك ولكن رأينا أثرك في مدرستك»، لقد كانت نظرته التربوية الفاحصة للمدرسة كافية لإدراكه بما وراء ذلك من عطاء، كما كان منهجه المحفز والملهم هو وسيلته لتحريك مئات من الطموحين للعمل ليل نهار في سبيل بناء برامج وتوجهات وثقافات تربوية متميزة لا تزال آثارها حتى اليوم.
إذا أردنا أن نوجد بيئة خلاقة ونزرع روح العطاء فالمجال التربوي وعملية إدارته هما نسيج متكامل لا يمكن فصله وتقطيعه عن بعض، وعند ظهور مسخ النموذج المشرذم المنفصل فإن أي صورة تربوية تتحقق في سياقه ليست سوى نفاقا إبداعيا من الصنف الفاخر تفنن فيها كل المشاركين من المعلمين والمديرين والمشرفين والمسؤولين وربما كان معهم الطلاب أيضا ليقدموا صورة مبهرة زائفة وسرد أمثلة في هذا السياق للقراء تحصيل حاصل لإلمامهم العميق بذلك من شدة كثرتها.
أنا مع معاقبة من يعملون في المؤسسة التربوية ولا يحترمون حاجتها لحسن الأداء والقيام بالواجب خاصة عندما يكون خطؤهم إهمالا وتسيبا لا مجرد تقصير يمكن تقبله ضمن مفهوم تقدير بشرية من يعملون، وأنا شخصيا قمت بإمضاء قرارات عقوبات إدارية من هذا النوع وفعله كثيرون غيري من التربويين المخضرمين بعد التحقق والتثبت والتدرج ثم تعذر الإصلاح.
وهذا واجب نحو أبنائنا الطلبة الذين يتضررون من مثل هذا الإهمال والتقصير المخل. إذن ما الذي حدث بين المدير والوزير؟ ما حدث ليس أكثر من دخول شيطان بينهما، وذلكم الشيطان هو الإعلام ، وسبق أن أشرت إلى خطورته على قرارات المسؤولين في مقالتي «اعزلوا مدير التعليم» بهذه الجريدة, كما سبق أن أشرت إلى مشكلة الكتب في مقالة سابقة بعنوان «كتابي عذابي» وضرورة استرجاع الكتب والنظر في أحجامها وكثير من المشكلات حولها، كما سبق أن كانت الوزارة تجمع الكتب من الطلاب قبل تسليم الأسئلة وسبق وسبق وسبق، هناك الكثير مما «سبق» ولم تتم الاستفادة منه... فلماذا لا نتقدم؟
الجواب: ليس لأننا لا نعرف نسير إلى الأمام ولكن لأننا لم نتعلم بعد كيف لا نسير إلى الخلف.