فضل بن سعد البوعينين
أيام قليلة تفصلنا عن زيارة الرئيس دونالد ترمب للمملكة. زيارة تحمل في ثناياها مجموعة من المؤشرات المهمة، وفي مقدمتها تأكيد أهمية المملكة كحليف استراتيجي، ومعالجة الآثار السلبية التي تعرضت لها العلاقات المشتركة خلال السنوات الثماني الماضية، وفتح صفحة جديدة من العلاقات المثمرة الداعمة لتكريس أمن المنطقة واستقرارها. مستشار الأمن القومي الأمريكي، اتش آر مكماستر، أكد أن «ترمب سيسعى خلال زيارته إلى السعودية لتشجيع شركاء أمريكا على دعم السلام، ومواجهة الفوضى والعنف».
المملكة محور السلام والاستقرار في المنطقة، والقادرة على حشد الدول الإسلامية لمواجهة إرهاب الدول والأفراد، والمشاركة الفاعلة في الجهود الرامية لتعزيز الأمن والسلم الدوليين. أكثر من خمسين دولة إسلامية سيحضرون قمة الرياض والتباحث مع الرئيس الأمريكي الذي جعل من أولوياته مواجهة الإرهاب والقضاء عليه، ومعالجة أخطاء سلفه التي سمحت لإيران والتنظيمات الإرهابية بإحداث فوضى عارمة، لا يمكن التعامل معها بسهولة.
وبالرغم من أهمية الزيارة في المجالين السياسي والأمني إلا أن بُعدها الاقتصادي سيكون حاضرًا من خلال شراكات نوعية واستثمارات موجهة لقطاعات التنمية بشكل عام. يعكس حجم ونوعية الوفد المرافق للرئيس الأمريكي أهمية البعد الاقتصادي للزيارة، وهي أهمية مشتركة للجانبين الباحثين عن الفرص الاستثمارية والمشروعات التنموية، وتوثيق العلاقات الاقتصادية على أسس استراتيجية نوعية. هناك من يعتقد أن خلفية ترمب الاستثمارية تدفعه نحو توثيق العلاقة مع شركائه الاقتصاديين. والحقيقة إن الأمر يتجاوز هذا المحور بكثير؛ فتجذر العلاقات السعودية - الأمريكية ومتانتها يدفعان نحو معالجة ما طرأ عليها من فتور، وإعادتها إلى سابق عهدها، وهو أمر تغلبه المصلحة القومية الأمريكية أولاً، وتدعمه الحاجة الاستراتيجية للمملكة التي تشكل محور الاستقرار في المنطقة.
مجموعة من الشراكات والاتفاقيات والفعاليات الاقتصادية المتوقع عقدها خلال زيارة الرئيس ترمب، وإن كنت أركز على أهمية اللقاءات النوعية والمباحثات الفكرية المؤسسة لمنصة معلوماتية داعمة لتدفق الاستثمارات، وحاضنة للابتكارات والعقول الشابة القادرة على تحقيق الإبداع في قطاعات التقنية والاستثمار بشكل عام. وأشير في هذه العجالة إلى حلقة النقاش السعودية - الأمريكية «الابتكار لتأثير فعّال»، التي ستقام بالشراكة بين مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية والهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ومشاركة من الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة في مؤسسات بحثية وعلمية رائدة، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود. وضع أطر وخطط عمل لتوجيه الابتكار العلمي وتقديم حلول للقضايا التنموية وتطوير القدرات السعودية العاملة في مجال الابتكار العلمي والأبحاث وريادة الأعمال، بما يتوافق مع رؤية المملكة 2030»، جانب مهم من أهداف حلقة النقاش.
أكثر من 100 مشارك من قيادات الابتكار والعلوم والتقنية، يمثلون قيادات حكومية ورؤساء شركات متخصصة في التقنية والابتكار ومراكز أبحاث وجامعات، إضافة إلى عدد من طلاب وطالبات الجامعات السعودية، سيتباحثون في تعزيز المعرفة ودعم الابتكار العلمي من أجل وضع حلول ناجعة للقضايا والتحديات التي تواجه المجتمعات، إضافة إلى تطوير القدرات السعودية المنخرطة في مجال الأبحاث والابتكار وريادة الأعمال.
دعم الابتكار في قطاع الطاقة، المياه والزراعة، الثورة الرقمية، تصميم قطاع النقل المستقبلي، وتطوير أبحاث الصحة والعلوم الحيوية، من أهم الملفات المطروحة للبحث المشترك، وهي ملفات تشكِّل أولوية للمملكة، وبخاصة البحوث ذات العلاقة بالمياه والزراعة. ندرة الموارد الطبيعية حفزت الدول الصناعية على العمل وفق معايير صارمة لبناء اقتصادياتها على الإبداع والابتكار مستفيدة من مخزون المعرفة التي نجحت في تشكيلها منظومة التعليم والتدريب المتاحة لها، وهذا ما تسعى المملكة لتحقيقه من خلال رؤيتها 2030 وشراكاتها النوعية مع الدول الصناعية، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا كان التركيز الأكبر على حجم الشراكات الاستثمارية والعقود الموقَّعة خلال زيارة الرئيس ترمب فأحسب أن الفائدة الاستراتيجية قد ترتبط بالشراكات الفكرية المحفزة على الإنتاج والابتكارات النوعية الملبية للحاجة ومعالجة التحديات الكبرى.
أجزم بأن الاستثمار في بناء الإنسان والمعرفة والابتكار هو الخيار الأمثل لمواجهة التحديات، وتحقيق التطلعات في عالم تحكمه العلوم والتقنية، وتسيطر عليه الاختراعات، وتتجاذبه القوى الاقتصادية التي اعتمدت في بناء قوتها على المعرفة والابتكارات الخلاقة. بلوغ العالمية لا يمكن أن يتم إلا من خلال التسلح بالمعرفة، والتوسع في بناء الفكر، وإرساء قواعد التنمية البشرية الحديثة، وهو الحلم الذي يطمح إلى تحقيقه الجميع.