فهد بن أحمد الصالح
ليس على الوطن وأهله أقسى ألمًا من فَقْد المنتج المتجدد وصاحب الرسالة الثابتة وراسم الهدف الواضح, وهو الحال بجملته نراه مع الراحل إلى عفو الله ومغفرته الأستاذ تركي السديري، ملك الصحافة السعودية الذي أسماه خادم الحرمين الشريفين - رحمهما الله جميعًا -, وهو عميد الصحافة العربية الذي ودعنا وداعًا مختلفًا، تناقلت خبره كل القنوات والشخصيات والوسائل؛ فهو أحد المتزعمين للسلطة الرابعة التي استطاعت هنا أن تساهم الرياض برئاسته والجزيرة بربانها وبقية الصحف بقياداتها المتعاقبة في تثبيت الأمن، ونبذ العنف، وتجريم المخطئ، وتصحيح المفاهيم، وإصلاح الأخطاء والتجاوزات، وتكريم الفاعلين، ونشر إيجابياتهم، مثلما كانت في دول أخرى قد ساهمت في تغيير حكومات. وتركي السديري بالرغم من معرفة الجميع بمرضه إلا أن رحيله كان مفاجئًا، وخبره حزينًا، أو أن الناس هنا بطبيعتهم لا تريد أن تصدق نبأ الرحيل محبة له وتقديرًا لسيرته وتاريخه وإخلاصه لوطنه ومطبوعته، والتزامه بخط إعلامي وإخباري وتنويري واضح ورصين.
ومقابل هذا الألم لذلك الفقد فإن المجتمع تكتمل سعادته إذا تم الفصل بين الخلاف المهني والخلاف الشخصي؛ فالأول يؤدي إلى التنافس في الأداء، والرقي بالمنتج، ومحاولة كسب أكبر قاعدة جماهيرية. أما الثاني فهو السبيل للقطيعة وتراكم المواقف، ويؤدي إلى عدم قبول الآخر، وهو الصفة التي لم تحدث في علاقة النبيلين الأستاذ تركي السديري - رحمه الله ورفع درجته - والأستاذ خالد المالك - متعه الله بمزيد من الصحة والعافية - الذي يقول في مقال مؤثر في رفيق عمره رحمه الله: «لا أحد اختلف مع أبي عبدالله أكثر مني، ولا أحد عاندني كما فعل تركي السديري، وأزعم أننا كنا نتعامل مع بعضنا بإعطاء قيمة ومعنى مغاير حتى في أسلوب خلافاتنا، وأننا نحسب كثيرًا لما يمكن أن تؤول إليه مواقفنا التنافسية من تداعيات ونتائج، فلا نذهب بها بعيدًا، وأن أيامنا رغم شراسة الخلافات أحيانًا لم يحد معها أحدنا عن التزامه الأخلاقي والإنساني في احترام المنافسة، وما كان يتولد عنها من تأثيرات على مستوى العلاقة الشخصية التي تظهر للجمهور، بل الحرص على البحث عن فرص لتطويقها، أو وضعها عند حدها وسقفها الطبيعي كأي منافسة بين صنعتين وعملين متجانسين. وكان تركي هو الفارس والمعلم والصدر الرحب في كل هذا». ويقول أبو بشار: «كانت أهم الإيجابيات في هذا الاختلاف أن صحيفتَي الرياض والجزيرة لم تشهدا التطور والارتقاء بمستواهما إلا بفضل هذه المنافسة الشرسة التي كانت أحيانًا على حساب العلاقة الشخصية بين صديقَين، ارتبطا بأوثق العلاقات قبل أن يكون كل منهما رئيسًا لتحرير صحيفته. وكان من إيجابياتها أننا أعطينا - كما أعتقد - دروسًا في حرصنا على الالتزام بالأمانة التي أوكلت لكل منا في صحيفته؛ فلم يسمح أحدنا بأن يهمشه الآخر، أو يقصي صحيفته عن حقها الطبيعي في السوق وبين القراء؛ فظل كل منا يدافع بضراوة عن صحيفته، والعمل في كل اتجاه لأن تكون هي الأولى، بالعمل، والجدية، وعدم القبول أو السماح بأي إساءة أو تهميش قد يصدران بعفوية، أو باجتهاد يكون تقديره في غير محله». ويفصح المالك بقوله: «كثيرون يعتقدون أننا عدوان، وأن لا رابطة ود تجمعنا، وأن ما نحمله لبعضنا لا يصنف إلا على أنه يتعدى المنافسة الصحفية إلى المساس بالعلاقة الشخصية، وهذا سوء فهم، وقراءة غير صحيحة؛ فما كان يجمعني بالأستاذ تركي السديري من الود والصداقة والمحبة أكثر بكثير من أي تصور يخالف هذا الوصف، وما ربطنبه على مدى نصف قرن من الزمالة حمل من السمو والأريحية والخصال الحميدة ما أعتز به، خاصة تلك العلاقة التي توصف عادة بأنها شخصية؛ فقد سافرنا معًا كثيرًا، بعضها في رحلات عمل، وبعضها رحلات خاصة، وكانت كل رحلة بمنزلة فرصة لغسل ما قد يكون قد حدث من منافسات تولد عنها وقفة نفس، وكنا نبحث دائمًا عن مثل هذه الفرص لمداواة ما علق من سوء فهم بيننا، ومعالجة أسبابه».
وهذا النبل في الخلاف جعل خالد المالك يتمسك باحترامه وإجلاله وتقديره لتركي السديري - رحمه الله - مع محبة خاصة جدًّا، يظهرها له قبل مرضه وبعد وفاته، وحتى في تأبينه, ثم الاستشهاد على سخاء فقيد العمر، ونبله، وكرمه، وإنسانيته، وثباته على مبادئ سليمة، كان يؤمن بها، ولا يتراجع عنها، مع الحديث عن حرصه على دقة عمله، والاستماتة والدفاع عن أي موضوع يطرح في الرياض. وهذا في حديث عن منافسه الشخصي ومنافسة مطبوعته, ثم الحديث الصادق والمكانة التي يجب أن يكون فيها تاريخ خمسة عقود من الركض والمنافسة والرقي في الكلمة التي كان يمثلها فقيد العمر، والتي لا يمكن أن تطرز إلا في الصفحات الناصعة من صفحات التاريخ الإعلامي مثلما يجب أن يكون كذلك تركي السديري؛ فهو من الجيل الإعلامي الذهبي لنصف قرن مضى من تاريخ وطننا الكريم وإرثه الإعلامي الرصين, والمالك على يقين أن ذهاب الأسماء اللامعة واختفاء أصحابها من الميدان سيُلقي بظلاله على مستوى الحركة الصحفية في المستقبل.
ختامًا, من الواجب أن تدون المراحل المتعاقبة للفقيد، ورأي الآخرين الذين عاصروه فيها، سواء من الكتاب أو الأدباء أو المسؤولين والأمراء، ونشر ذلك في أحد إصدارات صحيفتنا الرائعة والوفية - كما عهدناها - (الجزيرة). كما أجدها مناسبة لتأكيد مقترح قدمه في المقال الإنساني المؤثر أبو بشار لسمو أمير منطقة الرياض تخليدًا لسيرته المهنية، وتحقيقًا لصوت الإعلام والصحافة الورقية، بتسمية شارع رئيسي في الرياض العاصمة باسم الفقيد، وحبذا أن يكون أحد الشوارع المحيطة بالصحيفة أو القريبة؛ ليكون شاهدًا على العصر, مع التطلع إلى إطلاق ندوة ترصد تاريخه ومشاهدة مرافقيه وزملاء مرحلة البناء الإعلامي عبر عقوده الخمسة الماضية، وهذا شأن نتوقع أن تقوم به هيئة الصحفيين السعوديين مشكورة. أما دور أبنائه فإنني أتطلع لجمع كل ما يُكتب في هذه الأيام عنه من مقالات وتغريدات وتعازٍ؛ لكي تصدر في كتاب؛ حتى يعرف المجتمع أن المنتج لا يموت وإن فارق جسده الدنيا، وأن الشواهد بعد الوفاة ستبقى دليلاً على إيجابية المتوفَّى - رحمه الله -.
** **
- أمين وعضو لجان ومؤسسات المجتمع المدني عضو المجلس البلدي - مستشار خدمة المجتمع