د.عبدالرحيم محمود جاموس
لقد آلمنا رحيل فارس من فرسان الفكر والقلم، فارس من فرسان الصحافة والإعلام العربي السعودي، المرحوم بإذن الله تعالى الأستاذ تركي عبدالله السديري (أبو عبدالله)، الذي انتقل إلى رحمة الله صباح يوم 14 أيار 2017م، عميد الصحافة السعودية، وشيخ من شيوخ الصحافة العربية على مدى أربعة عقود خلت على رأس صحيفة الرياض، التي قادها المرحوم في مرحلة تحول ونهوض كبير كانت تشهدها المملكة العربية السعودية على كل المستويات والصعد، وارتقى بها كي تكون في صدارة الصحافة الوطنية والخليجية والعربية، استلم رئاستها وهي مؤسسة صغيرة لا يتعدى عدد العاملين فيها العشرات، تطورت إلى أن زاد عدد العاملين فيها على عدة مئات من المحررين والصحفيين والفنيين، كشاهد على حجم ونوع التطور الذي وصلت إليه جريدة الرياض برئاسته وقيادته.
كانت زيارتي الأولى له في شهر ديسمبر من العام 1985م في مكتبه في حي الملز المقر القديم لجريدة الرياض، كان مكتباً متواضعاً ولكنه جميلٌ بما انتشر فيه من نشرات وجرائد وكتب مختلفة، وبما غطى زواياه من نباتات الزينة الداخلية، ومن حفاوة الاستقبال والتواضع الجم الذي أبداهما المرحوم في ذلك اللقاء، الذي قدمت إليه فيه إهداء لعدد من الكتب من إصدارات مركز الأبحاث الفلسطيني ونسخة من كتاب جهاد شعب فلسطين، لوزير الخارجية الليبي صالح بويصير، وكتاب الاستشراق والإمبريالية الثقافية للكاتب والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، كانت سعادته -رحمه الله- بالغة بهذا الإهداء المتواضع من طرفي، لعلم من أعلام الفكر والصحافة في المملكة العربية السعودية، الذي كنت أحرص على التعرف عليه ولقائه، لأن الثقافة والإعلام هما أداة التحول والتغير والتقدم الأولية في أي مجتمع يسعى للنهوض والتقدم في شتى الحقول والميادين، والأستاذ المرحوم تركي كان يعد رائداً وعلماً من أعلام التحول والتغيير والتنوير والحداثة التي تسعى إليها المملكة وقيادتها، وكنت قد عرفته من خلال زاويته اليومية في جريدة الرياض (لقاء)، لقد كانت سعادة الأستاذ تركي بما أهديته من كتب كبيرة وبالغة، عبر عنها خير تعبير، عندما قال إن الثقافة الفلسطينية، والمثقف الفلسطيني هما عنوان الانتصار وبدايته، وهما جدار وخندق يصعب اختراقه، مشيداً بالحركة الثقافية الفلسطينية وبالمثقف الفلسطيني، الذي قدم روايته وحافظ على ذاكرته، وهزم الرواية الصهيونية، وأن جبهة الثقافة والفكر في الصراع تعد من أهم الجبهات وأخطرها، واستعرض -رحمه الله- أعلام الثقافة والفكر والأدب الفلسطيني، متوقفاً عند الأسماء التي استهدفها العدو بالاغتيال من غسان كنفاني وكمال ناصر ووائل زعيتر وماجد أبو شرار، لما يمثله المثقف والثقافة من دور هام في الصراع وفي التغيير والتقدم، وبعدها توالت اللقاءات والاتصالات مع الأستاذ تركي في المناسبات المختلفة، كان -رحمه الله- يدافع عن معاني الوطن والوطنية ولا يتقدم لديه أي ولاء أو انتماء على الولاء للوطن والوحدة الوطنية اللذين هما في نظره أساس قيام الدول ودوامها وتقدمها واستقرارها، في الوقت الذي كان وما زال البعض يهمش ويسخف مثل هذه المفاهيم ولا ينظر للوطن إلا مجرد حفنة تراب..!
نعم إن رحيل هذا الفارس المثقف يمثل خسارة للثقافة والوطنية التنويرية التي نحن اليوم بأمس الحاجة إليها في ظل التحديات التي تواجهها الدول والأمة العربية وتلك تحديات (غول الطائفية)، والتأسلم السياسي الهدام، الذي كان -رحمه الله- من أشد المواجهين له والمحذرين منه، أذكر له قولاً في هذا الشأن أثناء لقائي معه في مكتبه عام 2007م كان على شكل تساؤل: تخيل لو حكم الإخوان المسلمين مصر؟! ويجيب رحمه الله على التساؤل: عندها لسنا بحاجة للاستعمار أو الصهيونية، ستشتعل الحروب الداخلية، وستحدث ما عجز عن إحداثه الاستعمار، من تفسيخ للمجتمع وتدمير لوحدة الدول والمجتمعات العربية...! كان هذا قبل ما سمي بالربيع العربي بأربع سنوات، كان -رحمه الله- يقظاً ومحذراً مما يخطط للعالم العربي، ومما يمكن أن تؤول إليه أوضاع العرب ودولهم.
رحمك الله يا أبا عبدالله، لقد غادرتنا ونحن في آوار ما كنت تحذر منه، لكن عزاؤنا فيما خلفته لنا من مواقف واضحة وثابتة، كنت جريئاً في التعبير عنها رغم كل التحديات الصعبة، كنت رائداً من رواد الحفاظ على الدولة والمجتمع وحريصاً كل الحرص على وحدتهما وتقدمهما، كنت أستاذاً ومعلماً بجدارة من أساتذة الجيل ومعلميه، كنت مدرسة وصحيفة ومنبراً يشع منها النور والتنوير في عالم ما زالت تستهدفه قوى الظلم والظلام.
رحمك الله أبا عبدالله رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته وألهمنا وذويك الكرام وأصدقاءك وزملاءك ومحبيك جميل الصبر والسلوان، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.