د.فوزية أبو خالد
يأبى الشعب الفلسطيني بين الفينة والأخرى إلا أن يُبقي على شعلة الشعر في يد الشعراء وشعلة الأمل في يد الشباب وشعلة المستقبل في يد الأوطان.
يأبى شعب محاصر ملاحق مقاتل (بفتح التاء) أن تموت قضيته وتتحول إلى حجر صغير وسط الأنقاض التي يجري عبر توسيع دائرتها تحويل كل صورة سابقة عن عمار العالم العربي وعن نضاله على جبهة العمران البشري إلى خراب بواح في ذهن العالم عموما وفي ذهن الأجيال العربية الناشئة تحديدا.
فيقوم أحرار فلسطين الأسرى في سجون الاحتلال الاستيطاني لبلادهم بتحرير قضيتهم من الانقسامات السياسية الفلسطينية الفلسطينية ومن مساومات التسويات الجائرة ومن النسيان العربي والعالمي, بل يقومون أيضا بتحرير الوطن العربي من المحاق القائم والمحاقات المحدقة من خلال إضرابهم عن الطعام لما يقارب الشهر اليوم. إن الأسير الفلسطيني بهذا الفعل السلمي الشفيف على شراسته يعيد كتابة تاريخ الشعوب إذا أرادت الحياة ويقوم بكتابة تاريخ الأوطان إذا أرادت ألا تخرج من التاريخ وألا يحجب حقها في المستقبل. إن الالتفات والالتفاف العالمي ولقواه الناعمة المتربعة على عرش الهامش عبر القارات حول المضربين قد برهن على أن إضراب أحرار فلسطين الطويل عن الطعام في سجون العدو الإسرائيلي ليس مجرد موقف احتجاج على معاملة العدو الصهيوني العنصرية الوحشية لأسراه وليس مجرد تعبير عن بعض مطالب الحياة الإنسانية الضرورية التي يحجبها العدو الصهيوني عنهم، بل إنه موقف انحياز للكرامة الإنسانية ولفعل المقاومة وموقف تكوين لذاكرة شبابية لم تفتح عيونها إلا على محاولات محو هذه القيم العظيمة عن المسرح الدولي عموما والعربي على وجه التحديد.
فبنات وأبناء العشرين اليوم من الشباب العربي ممن نجت أوطانه من طائلة الدمار الشامل والفوضى القاتلة الذي ضرب المنطقة مع مطلع الألفية الثالثة للقرن الواحد والعشرين ومعهم شباب المنطقة الذين ذاقوا ما أنساهم حليب أمهاتهم من مرارات التدمير المنظم لأرضهم ومستقبلهم لا يملكون تلك الذاكرة التي تملكها الأجيال السابقة ليقبضوا على شمعة الأمل ولو في الخيال.
فهؤلاء الفتية والشباب لم يروا عراق الأبجدية السومرية الأولى ولا عراق الحضارة العربية الإسلامية ولا عراق الثورة على الاستعمار الإنجليزي ولا عراق العلماء ولا عراق السياب ولميعة عمارة ونازك الملائكة ولا عراق الخروج على التخلف, إنها أجيال لم ترَ اليمن السعيد إلا يمن غير سعيد وبائس ومستضعف، جف فيه سد مأرب وأغمض فيه البردوني عيناه وتفرقت فيه دماء مسلة الحقوق الحمورابية بين طوائف وقبائل عمياء.
بل إن هذه الأجيال لم تفتح عينها إلا على مشاهد الشاشات الملطخة بالدم والإذلال والأنقاض.
إن بنات وأبناء الخامسة عشرة اليوم لم يروا سوريا بلاد المشمش والياسمين وقصائد نزار قباني وانتفاضات الماغوط وممدوح عدوان ولا لاذقية البحر والشمس ولا حلب بلاد الفن و الجمال ولا الشهباء في مقاومتها الفاتنة للاستعمار الفرنسي وقبضات العسكر.
بنات وأبناء الأجيال اليافعة اليوم لم ترَ ليبيا بلاد عمر المختار ولا الجزائر منبع جميلة بوحيرد. هي أجيال لم تفتتن بفلسطين بلاد المقاومة والشهداء وأطفال الحجارة بلاد شعر محمود درويش وروايات سحر خليفة وألحان الرحبانية ومرسيل والقدس زهرة المدائن وأميل حبيبي جنبا إلى جنب مع الشيخ أحمد ياسين.
وربما كل ذلك اقتضى أن يأتي إضراب الأسير الفلسطيني الذي تحركت له عواطف وعقول العالم كله ما عدانا، ليكون بمثابة محاولة جارحة لتحدي تلك الصورة التي تريد أن تُثبت في الأذهان بما فيها أذهاننا وأذهان الأجيال اليافعة بأن العرب كل العرب إما إرهابيون وهمج لا يرومون من الحياة إلا الاقتتال ومحاربة قيم السلام والحرية أو أنهم مجرد شتات يتوسل اللجوء على أبواب الغرب وبأنهم مشردون في مخيمات حدودية وعالة على شعوب الغير أو أنهم تلك الحفنة النفطية المستِهلكة الغارقة في غيها وغناها مع استخلاص بأننا ننقسم بين ثنائيتين لا ثالث لهما وهي ثنائية القطيع وثنائية الرعاة بما يجعلنا إما رمزا للاعقلانية و»القرطوسوية» بمعناها السياسي والفكري أو رمزا للهوان وللاستسلام بمعناها القيمي والسلوكي. بما يحول هبة الربيع العربي إلا مجرد حصان طروادة للتخلص من المنطقة المريضة وتقاسم ما فيها من خيرات. بهدف تكرار نفس تلك الحكاية الساذجة الرتيبة بين الضحية المستكينة والجلاد المستنمر.
لقد جاء صمود إضراب الأسير الفلسطيني عن الطعام ومعه مشاركة عشاق الحرية لذلك الصمود في أنحاء متعددة من العالم تحديا لبشاعة تلك الصورة التي يرسمها الآخر وترسمها أفعال بعض منا لوجه عربي مفرغ من الماء والحياء.
فكيف تركن قوى العدل عالميا من الشباب والمهمشين، وكيف نقر عربيا بعدم جدوى المقاومة لآخر رمق ونحن نرى أسرى خلف القضبان يقررون إعادة الاعتبار لقضيتهم التي نكاد ننسى وإعادة الاعتبار لإنسانيتنا التي تكاد تنكر علينا. ليصير الطليق أسيرا والأسير طليقا.
فأي شكر يكفي للشعب الفلسطيني على هذا الإلهام لإخراجنا من معازل الاستسلام أو الانسحاب أو المجاراة إلى فضاء حرية الأسير الفلسطينيين المكتوبة بقلم لا ينكسر ولا يجف اسمه قلم المقاومة. وكما تستعيد لي رسالة علمية أقرأها الآن بهدف امتحانها بعض من حيوية الفكر غير السائد, أستعير منها ما قاله المفكر الفرنسي ميشيل فوكو «لا توجد سلطة إلا وتوجد مقاومة».