د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
مزّق بعض طلاب إحدى المدارس في تبوك كتبهم الدراسية وقذفوا السيارات المارة أمام مدرستهم بها، وهذا أمر فيه بلا شك امتهان للكتب بل ولعملية التعليم كاملة. إثر ذلك، وكرد فعل أولي متفهم، وجّه معالي وزير التعليم بإعفاء قائد المدرسة فوراً من مهامه، كما وجّه بالتحقيق في أسباب غياب الإشراف على انصراف الطلاب ومتابعتهم، وعدم وجود مشرفين من المدرسة أثناء انصراف الطلاب. وكالعادة تم تشكيل لجنة وزارية لدراسة أسباب هذا التصرف ووضع حلول جذرية له.
كل هذا جميل، ولكن اللجنة كما تبدو لجنة تأديبية، ويتضح ذلك من القرارات التأديبية الأخرى التي أصدرتها الوزارة بفصل بعض المسئولين أو بعدم تسليم نتائج الطلاب إلا لمن يسلم الكتب سليمة. هذه الإجراءات التأديبية نظرت للأمر وكأنه مخالفة طارئة، أو تصرف وقتي. ولكن الأمر على ما يبدو أعمق من ذلك، وإلا لما احتاجت مدارسنا لمن يشرف على انصراف الطلاب من الأساس. وليت الوزارة نظرت لهذه الحادثة وشخصتها على أنها قد تعكس حقيقة الارتباط العاطفي والتربوي بين الطلاب في مدارسنا الحكومية ومدارسهم، كيف ينظرون لها؟ مدى محبتهم لها وارتباطهم بها؟ فالطلاب لا يتلفون الأشياء التي أحبوها، ولا يلقون بالكتب على المارة أمام مدرسة احتضنتهم.
العمل التربوي والتعليمي عمل معقد جداً، والدول معظمها تصرف الجزء الأكبر من ميزانياتها على التعليم وعلى وجه الخصوص التعليم الأولي، ابتدائي، ومتوسط، وثانوي. وعكف معظم المختصين في العلم التربوي على دراسة أساليب تحبيب العلم والمدرسة لنفس الطالب، لأنّ المرحلة الابتدائية هي مرحلة غرس محبة المدرسة والعلم في نفس الطالب. وفي بعض البلدان يعتبر منع الطالب عن حضور المدرسة أقصى عقاب له. وينظف الطلاب في مدارس الدول التي تهتم بالتربية مدارسهم ويجدون سعادة في ذلك. ولتقدير مستوى عملنا التربوي في تعميق علاقة الطالب بالمدرسة، حيث يغيب الطلاب قبل أسبوع من الإجازة، وأسبوع آخر بعدها بإيعاز في بعض الأحيان من المعلمين أنفسهم، لأدركنا أن ظاهرة تمزيق الكتب هذه تحتاج لجاناً تذهب أعمق من دراستها كحالة فردية. فنحن نصرف ميزانيات ضخمة على التعليم ومما يوسف له أن تكون هذه هي النتائج.
بالطبع لا نلوم معالي الوزير فهو حديث عهد بالوزارة، وكما يقال لا يصلح العطار ما أفسد الدهر، ولا نلوم من تعاقبوا على إدارة دفة التعليم قبله لأنهم يتصرفون ضمن الصلاحية الممنوحة لهم، وهناك دهاليز للتعليم تخفى على الكثير. الناس تذهب بأبنائها لمدارس خاصة، يملك معظمها مسئولين سابقين في التعليم، ليس ليتعملوا تعليماً أفضل، بل ليعاملوا معاملة إنسانية أفضل. فالمدارس الابتدائية والمتوسطة وإلى حد ما الثانوية، تنظر لنفسها أحيانًا على أنها إصلاحيات تربوية مهمتها التأديب والضبط لا التحبيب والتربية السليمة. وبعض العاملين في مدارسنا من معلمين وإداريين علاقتهم بالتعليم وظيفية فقط، وليس محبة في التربية والتعليم، ويرون في الأطفال والمراهقين مصادر متاعب ومشاكل محتملة لا طاقات مستقبلية للوطن. التنفير من المدرسة، والعقاب بجانبية الجسدي والنفسي يغيبان عن المدارس الخاصة، رغم أنّ مرتبات المدرسين وحوافزهم شبه معدومة، ورغم أن المشرفين على هذه المدارس خرجوا معظمهم من رحم التعليم الحكومي، الفرق فقط هو الطالب في المدرسة الخاصة ينظر له كمصدر دخل، وفي المدرسة الحكومية على أنه مصدر إزعاج محتمل.
كان بودي لو اغتنم معالي الوزير هذه الحادثة لتقييم التعليم العام برمته: أساليب، ومواد ومناهج، ومعلمين. وليتنا نستقدم خبراء عالميين في التربية، مع قناعتي أن لدينا خبراء سعوديين أكفاء ولكنهم وللأسف بعيدون عن العملية التعليمية، ربما لأنّ لهم قناعات علمية لا يتنازلون عنها. فنحن استقدمنا خبراء في كل مجال: في الاقتصاد، والاستثمار، والرياضة، وحتى الإسكان مؤخراً رغم وجود مئات شركات المقاولات الجاهزة المعطلة. وهذه الظاهرة لا تقتصر على المدارس الابتدائية فقط، ولكنها عامة في كل مدارسنا بل جامعاتنا أيضاً. ودائمًا كنت أتسلى بقراءة الكتب والمذكرات الملقاة في ممرات الجامعة بعيد الاختبارات، كتب يشترونها الطلاب بمالهم ثم يلقونها فور دخول الامتحان. وباختصار لا يمكن فرض مواد تعليمية على الطلاب إذا ما كانوا لا يرغبون فيها، أو يرونها لا قيمة لها، أو تتعارض مع واقعهم.
ما نحتاجه أولاً هو جامعات للتربية تخرّج مدرسين أكفاء مدربين تدريبًا تربوياً علميًا سليمًا نسد بهم الفراغ التعليمي الهائل الموجود لدينا، فليس كل خريج جامعي أهلاً أو مؤهلاً للتعليم في المدارس. وبعضهم يمارس كل عقده التعليمية السابقة على أطفال المواطنين ومراهقيهم. نحتاج لغربلة شاملة للمناهج وأن نعيدها بأسلوب علمي وتربوي حديث، وليس محاولة قولبة التلاميذ رغماً عن إرادتهم في أساليب تعليم عتيقة. نعيش في عالم أصبحت وسائل الاتصال والتواصل تعلم الطالب أكثر من المدرسة، أصبح الطالب، حتى ولو كان طفلاً، بتغير أساليب التربية في كثير من البيوت، يعي ما له وما عليه. فظاهرة تمزيق الكتب ورميها على المارة هي في جوهرها رمزية، وربما تشكل قمة جبل الجليد فقط. ومن المحزن ضياع موارد ثمينة على أساليب تعليم عتيقة في وقت نطمح فيه لرؤية جديدة للاقتصاد والإنتاج، فالتعليم في نهاية الأمر هو الاستثمار الحقيقي.