كوثر الأربش
الجريمة صديقة الظلام، بنتُ الخِفية. حين تشرق الشمس، تنتعشُ الأشياء، تنفرد بتلات وردة، تلمع موجة، تنتعش روح حزينة؛ إلا اللصوص فإن الضوء يقتلهم. لا يخاف المجرم شيئا بقدر الوضوح. سيكون دائما بخير طالما هناك عتمة، رطوبة، فوضى، منعطفات، إبهام وتشويش. إنها الظروف ذاتها التي تـُربي الفطريات، بعيدًا عن الشمس، عن الهواء الحي!
في كل أقطار العالم كان هناك أحياء قديمة، هجرها سكانها، بسبب جاذبية المدن الرئيسية وتمركز الخدمات فيها، مما يتركها كبقعة مشوهة للكتلة العمرانية التي تمت هندستها بأجمل التصاميم، فتتهالك، تندر بها الخدمات، تتراكم القمامة، تتزاحم المباني، يزداد التلوث الصوتي والسمعي، وأخيرًا، تصبح وكرًا مفضلاً للمجرمين والهاربين والمطلوبين أمنياً.
هل تذكرون حي المرسلات عام 2013؟ هذا ماحدث فعلاً: الأهالي طالبوا أمانة الرياض بأنفسهم أن يتم إعادة تخطيط الحي، لأنه أصبح وكرًا للهاربين والمخالفين للأنظمة، حتى أنه درجت عليه تسمية «الحي المغتصب». أمانة الرياض عوضت سكان الحي، بعد أن انتهت من تخطيطه من خلال برنامج متكامل عملت عليه لتحويله إلى حديقة عامة. هكذا تجري الأمور في كل أنحاء العالم، عشوائيات اليمن، أو ما يدعى «حواسم» العراق، أو «البناء القصديري» في الجزائر.
غير أن الأمر مختلف مع إرهابيي العوامية وإزالة أوكارهم في «المسورة» مختلف لأن المجرم الأيديولوجي مختلف عن المجرم الجنائي. أعني بالمجرم الأيديولوجي، الذي يبني جريمته على أسس أيديولوجية، أو قيمية، أو إنسانية. هل تستغرب؟ صدقني لن تجد أبشع من مجرم يتذرع بالدين أو القيم أو بالإنسانية، إنهم المجرمين الذين يقنعونك بالدموع الكاذبة والأصوات المرهفة! إنهم يبدون أقوياء، راسخين، لأن أفكارهم شديدة الثبات، لكنه الثبات الذي يؤول للوسوسة والتوهم والاختلاق. كما قال ديستوفسكي «إن المصابين بمرض الفكرة الثابتة يجعلون من الفأرة جبلا، ويرون أشياء كثيرة حيث لا يوجد شيء البتة». هكذا صوّر إرهابيو المسورة مشروع تطوير هائل، بدأ بتعويض السكان وانتهى بتخطيط جميل، عامر بالخدمات والحدائق، إلى حادثة دامية. شوهوا الحقائق، أشاعوا الأكاذيب، ألفوا القصائد الحزينة، والأناشيد الطافحة بالألم. الأمر الثاني الذي يرتكز عليه هذا النوع من الإجرام الخطير، «الشفقة». حيث أن استهداف المشاعر أقرب للهدف دائما. ففي الوقت الذي غطوا سماء العوامية بضجيج الرصاص، وروعوا الأهالي، وحبسوا بعض السكان في منازلهم خوفًا. في الوقت الذي رصدت الكاميرات، رجال الأمن وهم ينقذون هؤلاء الأبرياء من السكان، يوزعون عليهم الماء والرحمة، كان هؤلاء المزورين يؤلفون قصائد الاضطهاد، ويستدرون الدموع! يقول ديستوفسكي، أيضًا، في كتابه الجريمة والعقاب: «لا يوقظ الأشقياء في القلوب إلا عاطفة الشفقة، حيث يبكي الناس على هؤلاء الأشقياء دون أن يوجهوا إليهم كلمة تقريع!» المرتكز الأخير لأي مجرم قِيمي، أو إنساني، أو ايديولوجي هو توهم «الغاية الشريفة»، كما قال ديستوفسكي «أننا نلفق لأنفسنا عندئذ سفسطة خاصة فنريح ضمائرنا إلى حين، مسوغين أعمالنا قائلين لأنفسنا: إن ما فعلنا هو ما كان ينبغي لنا أن نفعله مادمنا نعمل في سبيل هدف نبيل وغاية شريفة». إن من يقتل طفلاً، يروع شيخًا، ليس شريفًا، إن من يقف أمام تطويق الجريمة ليس شريفًا، إن من يزيف الحقائق ويستثير الشفقة، إن من يكذب.. يكذب كثيرًا ليس شريفًا.