د. محمد عبدالله العوين
في صباح مشرق بهي منتعش بنكهة قهوة النسكافا الثقيلة لم أرد أن أبدأ صباحي عند التاسعة بعمل ثقيل وقد استقبلت كومة من الأوراق، وملفاً يحتاج إلى تدقيق وتعليق وخطاب، وقائمة بأسماء عدد من طلاب المستوى السابع تغيبوا عن اختبار مادة الإلقاء، وقد يجهل بعض الزملاء في كلية اللغة العربية هذه المادة؛ فليس من ضمن المواد المقررة على الطلاب شيئًا اسمه الإلقاء ؛ وإنما يعنى بفنون الإلقاء قسم الإذاعة والتلفزيون بكلية الإعلام المجاورة لنا، وهذا أمر صحيح، وهذا ما هو حاصل بالفعل، والمادة المقررة في كلية اللغة العربية من المستوى الأول إلى السابع هي ما تعرف بـ»القراءة» وهي بهذا الاسم تحمل من الدلالات البدائية وبما يوحي بمرحلة التهجي الأولى للأحرف في الابتدائية أو المتوسطة ما توحي به من المستوى المتواضع من التحصيل العلمي لأسس القراءة الأولى وليس الإلقاء المتمكن المبدع، وفرق كبير جدًا بين القراءة والإلقاء.
ولأن ما يجمع بين القسمين؛ الأدب والإعلام يكاد يكون غائبًا - مع الأسف - عن أذهان كثيرين حصل هذا التباين الشديد بينهما، وحدث أيضًا هذا التباعد وعدم التكامل؛ فأساس النص الإذاعي أو التلفزيوني السليم أن يكتب ويلقى بأداء متمكن خالٍ من الخلل أو الضعف في اللغة ووفق مدارس التلوين الصوتي والتنغيم والتموج الموسيقي بين الكلمات والجمل بالالتزام الشديد بقواعد النحو وأدوات الترقيم والإفادة قدر الإمكان من بعض قيم التجويد.
وقد نتج عن ذلك الانفصال والتباين أن تخرج طلاب كثيرون في قسم الإعلام يجهلون قيم النص اللغوية والأدبية والبلاغية، وتخرج أيضًا طلاب كثيرون في أقسام كلية اللغة العربية؛ كالأدب والنحو والبلاغة يجهلون الجوانب الإعلامية في النص وأساليب الإلقاء ومدارسه وفنونه والتعامل الحسن مع المايكرفون في الإذاعة أو الكاميرات في التلفزيون.
ولذلك نجد من طلاب اللغة العربية من «يقرؤون» - لا يلقون - بطريقة سردية راكضة متشابكة العبارات والجمل، لا فصل فيها ولا وصل، ولا توقف ولا تنغيم، ولا تطريب ولا تلاعب بمستويات الصوت، ولا محل فيها لتعجب أو استفهام، ولا مكان فيها لتوقف أو استئناف، ولا يعرف المعنى تم أم بقي منه شيء لم يأت بعد، نص مخلوط بعضه في بعض، مطحون معجون يدوسه لسان جاهل وذهن غافل وعقل غائب، ولا يمكن إلا أن يصل إلى متلقيه كما ألقي، فلن يفهم منه سامعه إلا كما فهم منه قارئه.
ونجد طلاباً من أقسام الإعلام ؛ وعلى الأخص منها الإذاعة والتلفزيون يجهلون الجوانب الأدبية والبلاغية، ويشاركون زملاءهم دارسي اللغة العربية في الجهل المشترك بقواعد النحو، ثم يجد بعضهم من الكليتين فرصاً وظيفية في أجهزة الإذاعة والتلفزيون فيعلمون الناس الجهل بطرائق إلقائهم المشوهة، ويفسدون الذائقات السليمات أو ما بقي منها، ويؤكدون الخطأ وينفون الصواب المستقر من مدارس الإلقاء الجميلة السابقة حينما كان للإذاعة والتلفزيون إلقاء سليم مدروس ومتوارث.
طرق باب مكتبي في هذا الصباح المنتعش المتفائل المعطر برائحة القهوة النفاذة وقد فرغت من ترتيب أوراقي؛ فحركت هذه ورفعت تلك، وأزحت هذا الكتاب وقرأت ذاك، وكأنني استعد في علم الغيب لزائر لا أعلم من هو..
قلت: أدخل يا هذا؛ فالباب موارب وليس مقفلاً، وما تعودت أن أغلقه إلا حين أريد أن أخلو إلى نفسي بعض الوقت، فلا أكتفي بإحكام إغلاقه فحسب، بل أنهض وأمد يدي لأطفئ النور، فلا يدرى أحد من المارة أني قابع مستأنس إلى نفسي فيه، وحتى حين يبلغ الشك بأحدهم أنني مختبئ بين جنح النور المطفأ ويقرع الباب برفق ورقة اتعمد الصمت المطبق الثقيل الذي يكاد يكون أقرب إلى صمت الأموات!
فتحت الباب للشاب المتخلف عن أداء امتحانه، وقلت له يا محمد اقرأ أو على الأصح: ألق ما تشاء من كتاب «مي زيادة» «ابتسامات ودموع»..
اقرأ أو ألقى، ويا ليته لم يقرأ ولم يلق!...
يتبع