د. عبدالواحد الحميد
القطع الأثرية التي تروي قصة الحضارة في الجزيرة العربية منذ فجر التاريخ والتي تم عرضها مساء الاثنين الماضي الموافق 8 مايو 2017 في المتحف الوطني الكوري بسيئول في كوريا الجنوبية كانت مدهشة حتى لبعضنا من السعوديين الذين حضروا افتتاح الفعالية والتي كانت بعنوان "طرق التجارة في الجزيرة العربية - روائع آثار المملكة العربية السعودية عبر العصور".
نحن نعلم أن الجزيرة العربية شهدت قيام واندثار حضاراتٍ في العديد من أرجائها، وهذا غير مستغرب لأنها كانت منذ أقدم العصور ممراً للقوافل التجارية ومستقراً للكثير من المستوطنات البشرية. لكن الآثار التي تركتها تلك الحضارات كانت مطمورة أو محجوبة ما عدا بعض المعالم التي هي الأخرى تعرضت لعوامل التعرية الطبيعية أو حتى للتخريب المتعمد أحياناً مثل مدائن صالح وغيرها.
وبفضل جهود الآثاريين والباحثين وبعض الجهات الحكومية والأهلية وفي مقدمتها وزارة المعارف سابقاً ثم الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني فيما بعد، تم كشف النقاب عن آثار الجزيرة العربية التي تبرهن على مدى العمق الحضاري لهذه الجزيرة بخلاف ما يردده البعض مثل الأديب والباحث المصري يوسف زيدان الذي سخر قبل فترة قريبة في محاضرة بالمغرب من الإرث الحضاري للجزيرة العربية.
ما أكتبه ليس تمجيداً عاطفياً بحكم الانتماء إلى هذا المكان، ولكن من وحي ما رأيته في المعرض. فقد شاهدت معروضات ومقتنيات تعود إلى عصور ما قبل التاريخ خلال فترة العصر الحجري المبكر منذ مليون ومائة ألف سنة، وبعضها يعود إلى العصر الحجري القديم الأوسط والعصر الحجري القديم المتأخر والعصر الحجري الحديث. وهناك معروضات ترجع إلى الحضارات التي شهدتها الجزيرة العربية في عصور ما قبل الإسلام منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد وحتى القرن السابع الميلادي مثل الحضارة الدلمونية ومملكتي لحيان والأنباط وحضارات المدن في العصر الجاهلي، ثم المعروضات في العصور الإسلامية وما زخر به العصر الأموي والعباسي ومروراً بما تلاهما من عصور حتى زمننا الحالي.
وقد افتتح سمو الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني والدكتور "يو إل هو" نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الاستراتيجية والمالية الكوري المعرض، ولفت انتباهي ما قاله مدير المتحف الوطني الكوري في كلمته حين أشار إلى كثرة الاستفسارات التي يتلقاها المتحف من المواطنين الكوريين عن موعد افتتاح المعرض، وقال: "إن هذا يعطينا انطباعاً عن مقدار تلهف الكوريين للتعرف على حضارة لم تكن معلومة عندهم وتاريخاً ممتداً لشعب ارتبطت به النهضة الاقتصادية الحديثة لكوريا".
سيمتد المعرض لثلاثة أشهر في ضيافة المتحف الوطني الكوري، ثم ينطلق إلى عاصمة آسيوية أخرى هي طوكيو. ولاشك أن مثل هذا المعرض هو من أفضل رسائل العلاقات العامة التي يمكن أن نقدمها للشعوب الأخرى في زمنٍ كثرت فيها الهجمات والاتهامات الموجهة إلينا والتي تصفنا بأننا بلدٌ لا يملك سوى النفط ويفتقر إلى العمق الحضاري.
وفي موازاة هذا الجهد الثقافي الخارجي، بالطبع هناك حاجة لإبراز هذه المقتنيات وعرضها داخلياً وتسليط الضوء عليها كي يطلع عليها المواطن السعودي ويدرك ثراء إرثنا الحضاري، وهو ما تعمل الهيئة عليه.