د. إبراهيم بن عبدالله المطرف
يشير المفهوم العلمي للدبلوماسية الناعمة إلى أنها مزيج من الاتصالات والتفاعلات الرسمية بين الكيانات السياسية المعاصرة، أي الدول وغيرها من الفاعلين على المسرح الدولي، وذلك من خلال المؤسسات والجمعيات الأهلية غير الحكومية. وتمثّل الدبلوماسية الناعمة ذلك النشاط الذي تبذله دولة ما، ممثلة بشعبها، لكسب الرأي العام خارج نشاط السفارات والبعثات الرسمية والإعلام التقليدي للدبلوماسية الرسمية، مستخدمة كامل إمكاناتها وعلاقاتها واتصالاتها، كاللجان والمجالس المهنية وجمعيات الصداقة والجمعيات الخيرية والاجتماعية، ولجان الشباب والمرأة، والبرلمان ومؤسسات المجتمع المدني، بهدف التأسيس لعلاقات ثنائية بجهات موازية لها في دول العالم.
ويرتكز الإطار الفكري للدبلوماسية الناعمة على مجموعة من المبادئ والقيم الإنسانية التي تساعد على تقديم الحلول الناجحة لما يواجه الإنسان من قضايا من خلال إثراء الفكر المشترك لشعوب العالم وتقريب وجهات النظر فيما بينها، لخلق الحس الموحّد والتعاون المثمر تجاه تعزيز العلاقات بين الشعوب. وقد زادت في الآونة الأخيرة الحاجة للدبلوماسية كقوة ناعمة في التواصل بين الشعوب وزادت أهميتها في وقت صار الرأي العام الشعبي هو القوة الضاغطة التي تصنع القرار أو تؤثّر في صنعه أو تعمل على تغييره.
وتأتي أهمية الدبلوماسية الناعمة أيضاً نتيجة لما طرأ على النظام الدولي من تفاعلات ومتغيِّرات، أدت إلى تزايد دور وقوة الرأي العام الذي أصبح يعتد به في الشؤون الدولية، مما أدى إلى ظهور فاعلين سياسيين إلى جانب الدبلوماسية الرسمية للدولة . وأصبح للرأي العام الشعبي في وقتنا الحاضر تأثير على سياسات التعاون السلمي والتعاون الإقليمي والدولي، وعلى علاقات حسن الجوار بشكل عام، وصارت الشعوب أكثر وعياً وتطلعاً للوحدة الإقليمية والقارية، وذلك من أجل تحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي والأمني . وبالإضافة لذلك، تعاظم دور المنظمات والجمعيات اللا حكومية، ما زاد من أهمية الدبلوماسية الناعمة، حيث أصبح المجتمع الدولي في كل مكان، يؤمن بأهمية دوره تجاه خدمة قضايا بلده، ما ضاعف من أهمية الدبلوماسية الناعمة أو الشعبية.
وقد جرت العادة إلى أن تتجه الدبلوماسية الناعمة إلى مخاطبة الجماهير بشكل مباشر وبوسائل وأدوات شعبية متعددة، بهدف إيجاد علاقات مباشرة بين الشعوب، ومحاولة كسب تأييدها اعتماداً على الثقافة والمبادئ السياسية وخلق صورة ذهنية إيجابية عن الدولة المعنية، بما يؤدي إلى التعاطف مع سياساتها وأهدافها.
وتعتبر جمعيات الصداقة، التي يتم استثمارها في خدمة قضايا الدول الخارجية، من أبرز مكونات الدبلوماسية الناعمة في عالمنا المعاصر، ولذلك فإن تفعيل وتنشيط جمعيات الصداقة يتطلب تعاوناً ودعماً مستمراً من الجهات الرسمية . كما أصبح التواصل بين الشعوب أقوى وأشد تأثيراً من التواصل بين الحكومات، بل أصبحت الدبلوماسية الناعمة المحرك والموجه للسياسات الخارجية للدول، وأصبح التمثيل الشعبي بكل أطيافه، من الشخصيات العامة من علماء العقل والفكر والعقيدة والإعلام والمال والأعمال والقانون وغيرها، ملازماً للتمثيل الرسمي الحكومي، ما أدى إلى أن أصبحت العلاقة بين الشعوب أقوى وأعمق من العلاقات بين الأنظمة السياسية.
وينظر المجتمع الدولي إلى جمعيات الصداقة على أنها أكثر الوسائل نجاحاً وممارسة، فقد أثبتت تجارب العديد من الدول التي أنشئت جمعيات صداقة في وقت مبكر، وأصبح لها الكثير من التجارب في استخدام وسائل الدبلوماسية الناعمة بغرض تعزيز علاقاتها ومكانتها الدولية . ما يعني أنه أصبح يتوجب على الدبلوماسية الرسمية والدبلوماسية الناعمة أن تعملا معاً، وبشكل متكامل، بهدف خلق التواصل والحوار والتعاون مع الدول والشعوب الشقيقة والصديقة، حيث ينبغي أن يمثّل القائمون على الدبلوماسية الناعمة نخبة منتقاة من المؤهلين من شرائح المجتمع، من ذوي التخصصات، من الرجال والنساء، من علماء العقيدة والسياسة والاقتصاد والإعلام والاجتماع والتاريخ، ومن رجال الأدب والصحافة والمحاماة، ومن الطلاب والرياضيين والفنيين وغيرهم.
وليس غريباً، في عصرنا الحاضر، أن يكون العالم الثالث هو الأكثر اهتماماً بالدبلوماسية الناعمة، فسيطرة العالم المتقدم والعالم النامي على السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة، جعلت العالم الثالث يشعر بالغبن، ويحاول أن يوفر المعلومة الحقيقية عنه، والذي يتم في العادة عن طريق الدبلوماسية الناعمة.
وللدبلوماسية الناعمة معايير مهمة لإنجاحها، تتمثَّّل في القوة الاقتصادية والقوة السياسية للدولة، والاستخدام الجيد للروابط العقائدية والثقافية، والتي، بالإضافة إلى ما وفرته ثورة المعلومات من وسائل تستخدمها الدبلوماسية الناعمة للتواصل مع الآخر لتوصيل الرسالة المرجوة منها. وليتحقق النجاح المرجو من الدبلوماسية الناعمة، يتوجه عادة عدد مختار من كل شريحة متخصصة، للجهة الملائمة لمجاله وتخصصه في الدولة المعنية، وبذلك يتمكن المشاركون في برامج ومناشط الدبلوماسية الناعمة عادة، من إيصال الرسالة للخارج، بالصورة والشكل والقالب اللائق بها، وفق منهج علمي مدروس.
إن ما تحققه الدبلوماسية الناعمة في إطارها العام ومن خلال قنواتها المتعددة، يمثّل تفعيلاً للمشاركة الشعبية وقدراتها البشرية وإمكاناتها تجاه تحقيق أهدافها الوطني، وإن تعميق مفهوم الدبلوماسية الناعمة بين الشعوب وتبنيها من قبل الدول يمثّل جوهر موروث حضاري وقيمي في إدراك العلاقة بين الإنسان وبيئته وتطلعاته . وبحكم التزام دول العالم أخلاقياً وإنسانياً بتبني الأطروحات التي تجعل المجتمع الدولي داعماً لحقوق الحياة البشرية الكريمة التي تتصدى لقضايا التنمية والتخلّف، فهي مطالبة بدعم مفهوم الدبلوماسية العامة ومفهوم الرأي العام.
هذا، وللدبلوماسية العامة بعدان رئيسيان، أحدهما يمثّل بعداً داخلياً، والآخر يمثّل بعداً خارجياً. يمثّل البعد الداخلي تشكيل آراء المواطنين لخدمة الأهداف الوطنية، سواء كانت هذه الأهداف سياسية أو غير سياسية، من أجل خلق سياسة وطنية ذات طابع دبلوماسي شعبي، تعمل على توجيه الفكر نحو الوجهة السليمة الحضارية المتضافرة والموالية للدولة، وذلك من خلال تفعيل الجهات ذات العلاقة من المؤسسات الحكومية والبرلمانات ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني.
أما فيما يخص البعد الخارجي، فإن الغرض من الدبلوماسية العامة هو السعي إلى كسب التأييد والدعم الجماهيري للمواقف السياسية للدولة، والمساهمة في حماية أمنها الوطني كعامل وقائي للدولة، من خلال القضاء على خطر ازدياد حالة الكراهية للوطن، وذلك في ضوء أن عدم قبول العالم لسياسات بلد ما، عادة ما يعرقل تنفيذ سياسته الخارجية، ما يشكِّل خطراً حقيقياً على أمنه الداخلي.
وسوف نلقي الضوء على موضوع الدبلوماسية الناعمة بشكل موسع في الأيام القادمة، من خلال مقالات أربعة تشمل (1) التجربة الأمريكية في الدبلوماسية الناعمة (2) تجارب وتطبيقات في الدبلوماسية الناعمة (3) الدبلوماسية الناعمة السعودية (4) نماذج من الدبلوماسية السعودية الناعمة.