عبدالعزيز السماري
نعيش منذ زمن غير قصير أسرى للتفكير المتطرف في صورته الطائفية الدموية، كان آخرها ما يحدث في العوامية في القطيف، وما حدث قبل ذلك في الرياض وغيرها من مدن المملكة والعالم العربي تحت مسميات وجماعات مختلفة، إما شيعية متطرفة أو سنية متطرفة، وفي كلتا الحالتين يعانون من نفس الداء، يظل الخاسر الأكبر هو الأوطان والأبرياء.
قضية الإنسان مع العنف ليس لها خصوصية عربية أو إسلامية لكنها تعود إلى مختلف الأزمنة في مختلف الثقافات، ويبدو أنها مرحلة ضرورية للخروج من طور إلى آخر، فالتطور والتقدم نحو إنسان أفضل وأكثر عقلانية ثمنها غال، ويدفعها الإنسان دماً وأرواحاً من أجل نيل وثيقة الخروج من الدائرة المغلقة في التطرف والعنف.
قد تكون نظرية التطور النوعي التي ملأت الدنيا وشغلت العقول ليست تلك التي تم طرحها على أنها الانتقال من كائنات بدائية إلى نوع مختلف أكثر تطوراً وأكثر قدرة على تحمل تكاليف الحياة، لكنها ربما تعني التطور الثقافي داخل نفس النوع، فالمجتمعات البدائية التي تتقاتل بلا توقف قد تتطور مع تقادم الزمن إلى مجتمعات أقل عنفاً، وأكثر قدرة على الاتصال السلمي.
لهذا السبب أعتقد أننا أصبحنا قريبين من عنق الزجاجة في رحلة التطور النوعي الثقافي، ولعل ازدياد وتيرة العنف تعني أن مرحلة الفرج قد اقترب موعدها، عندها ستكون العقول في مرحلة أكثر استقلالاً من أن تكون أسيرة لعقول أخرى، لكن الرجاء أن تكون أقصر وأقل ضحايا من غيرها.
إذا أردت أخي القارئ إدراك أزمتنا الحالية، فعليك النظر في الصورة الكبرى في العالم، فأغلب المجتمعات الأخرى في الشرق والغرب خارج حدود الدم في المنطقة الإسلامية تعيش في سلام ويستعملون طرقاً متحضرة للاختلاف، ويبدون احتراماً لاختلافاتهم في الرأي والرؤية، وقد مروا بالفعل بذلك بعد جهد وتضحيات غير قليلة.
لك أن تدرك أنه في نفس اللحظة التي يُقتل فيها أبرياء تنفجر فيها شاحنة متفجرات في وسط سوق داخل مدينة عربية، يخرج الناس في بلاد غير المسلمين بهدوء للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البلدية في مدينتهم لاختيار من سيمثلهم في السنوات القادمة.
نعيش في أزمة عقل، فالإنسان في عالمنا لايزال يمجد الحلول الإقصائية التي تنصب العداء لأخيه الذي يختلف معه أو لجاره القريب الذي يرى فيه علمانياً صرفاً، أو لزميله في العمل المتهم بليبراليته أو لأنه ينتمي لطائفة أخري.. ولا نحتاج إلى جهد لمعرفة أزمة هذا العقل، فالقنوات الإعلامية مشحونة ببرامج أولئك الذين يزرعون الألغام في عقول الإنسان المتخلف عن ركب الحضارة من أجل توجيهه إلى هدفه في يومٍ ما، والخطاب الديني المتطرف يخشى خسارة رصيده الشعبي إذا سلم بقبول التغيير والانتقال إلى حالة السلم الاجتماعي.
نعيش أزمة خطاب، فالاختلاف المحمود في الرأي هو المذهب الفاسد عند هؤلاء، وهو الشرك المنهي عنه، بينما تجد بعضاً من الناس يشعرون بالأمن والروحانية العميقة إذا استمعوا لخطيب يتهم شركاءه في الوطن إما بالخيانة العظمى أو بالكفر والنفاق، وتلك حالة غير خاصة بجماعة عن أخرى، فملتهم في الإقصاء واحدة.
نعيش في أزمة ثقافة، فالوعي لايزال خجولاً، ويحبو في المهد، والسبب أن أصوات التسامح والسلام تشعر بالرعب من التصفية إن أعلنوا موقفاً فيه استنكار لحالة العنف والدموية التي تجتاح مدينته أو قريته، وما عليه إلا الصمت والخنوع أمام خطاب التطرف الطائفي الذي يعدهم بجنة عرضها السموات والأرض لمن باع وطنه، وقتل الأبرياء في شوارعه.
سنظل نعيش خارج الزمن إذا فشل المثقفون أولاً في إعلان مواقفهم من حالة العنف والإرهاب والقتل والدم في شوارع المدينة التي يسكنون فيها، فأول خطوات سلم التطور والتقدم إلى مراحل أكثر سلماً وتحضراً تبدأ بإعلان موقف ثقافي فيه خروج من حالة الصمت التي يعيش فيها بعضهم باختياره.. فهل يُعي مثقفوا التيارات المختلفة أدوارهم في إصلاح العقول.