محمد سليمان العنقري
أعلنت وزارة العمل والتنمية الاجتماعية الأسبوع الماضي أنها أوقفت استقدام أطباء الأسنان؛ لأنها تنظر إلى أحقية أن يشغل الأطباء المواطنون النسبة الأكبر من العاملين في القطاع الصحي، وقامت بالتنسيق مع وزارة الصحة؛ كي تقوم الأخيرة بدورها لتأهيل الأطباء السعوديين الخريجين، وتوظيفهم، إضافة إلى دورها بالترتيب مع القطاع الصحي الخاص؛ ليعتمد من الآن فصاعدًا على تلبية احتياجه من الداخل، وتحديدًا الأطباء المواطنين.
خطوة معالجة ملف الانكشاف المهني بالعديد من التخصصات الصحية والهندسية وبعض المهن الأخرى، التي تصنف بالحرجة بسبب النسبة الضعيفة لتمثيل المواطنين بها، بدأت وزارة العمل بالإعداد لها منذ وقت سابق، يفوق العام على الأقل، ومعها أيضًا برامج التوطين الموجَّه التي بدأت بقطاع الاتصالات، ومؤخرًا بقطاع المولات المغلقة.. وقد تم عرض أفكارها في وقتها على المختصين والجهات الاعتبارية ذات العلاقة. وكنت قد حضرت إحدى ورش عرض المشروع في رمضان الماضي، وكانت نسب التوطين الفعلية للمهن الصحية والهندسية منخفضة جدًّا، وجُلُّها بمختلف التخصصات، وتتراوح بين 7 % وقرابة 30 % ببعض التخصصات، ولكن في الأطباء كانت تتراوح حول 22 %، وهي نسب مقلقة جدًّا عند النظر للقدرة على تشغيل القطاع الصحي في حال رغب الأطباء الوافدون في المغادرة لدولهم أو لأي فرصة عمل بدولة أخرى. ونسوق هذا الاحتمال؛ لأنه أمر وارد؛ ففي حرب الخليج الثانية (احتلال دولة الكويت) - على سبيل المثال - تخوف أغلب الوافدين المقيمين بدول الخليج عمومًا، وفكروا في الرحيل، وخصوصًا أصحاب الشهادات الصحية، كما ظهر في وقتها، وخصوصًا أن بعضهم شجعتهم دولهم على المغادرة، وهو أمر متوقع في ظل أجواء الحروب.. فلو فعلاً غادروا كيف يمكن تشغيل القطاع الصحي أو غيره من القطاعات بالمؤهلين؟ وهناك بالتأكيد ظروف عديدة، تكرر بها هذا الأمر، حتى ولو بأسباب مختلفة، أو بحجم محدود، إضافة إلى أن مثل هذه الشهادات يعد أصحابها مطلوبين بأي دولة؛ ولذلك لن يتردد أحد في الانتقال لفرصة عمل بمزايا أعلى بدولة أخرى، بما يعني أنه لا يمكن بناء (خطط تشغيلية) لقطاع حساس كالصحة على استقدام الأطباء من الخارج، بل كل تخصصات القطاع الأخرى؛ فالأصل أن يتم توطين القطاع بنسبة لا تقل عن 80 % على الأقل خلال عشرة أعوام، حتى لو اعتبرت مدة قصيرة، لكن لا بد من وضع هدف واضح ومحدد من قِبل وزارة الصحة بالتنسيق مع الجامعات.
فنسبة أطباء الأسنان العاملين الإجمالية لعدد السكان قد لا تزيد على طبيب لكل 6500 نسمة، بينما المعدل العالمي طبيب أسنان عام لكل نحو 1700 نسمة؛ مما يعني أنه بوجود الأطباء الوافدين هناك فجوة ونقص كبير، بينما لو أرادت المملكة الوصول لنسبة تتوافق مع المعيار الدولي فيجب أن يصل عدد الأطباء العامين بتخصص الأسنان إلى 17 ألف طبيب سعودي على الأقل إذا لم نحسب النمو السكاني والطلب على الخدمة الذي يتطلب إضافة ما لا يقل عن 300 طبيب عام بعد اكتمال التوطين، أي أن الحاجة سنويًّا لتغطية الإحلال والنمو بالطلب على الخدمة تتطلب ما لا يقل عن 2500 طبيب عام، يضافون سنويًّا بدون النظر إلى التخصصات بطب الأسنان التي تتطلب أعدادًا إضافية بالتأكيد في حال كنا نرغب في تحقيق توطين كامل خلال الأعوام العشرة القادمة، وخصوصًا أن الفرصة متاحة مع وجود 26 كلية طب أسنان، منها 18 حكومية.
أما عن إيجابيات القرار فهو يُعد أول خطوة عملية تعالج خلل الانكشاف المهني الخطير بسوق العمل المحلي، الذي يجب أن يوضع كأولوية بجانب ملف معالجة البطالة، ولا يقف في وجهه أي عقبات، فقول البعض إن الأنسب هو (التدرج) بتطبيق القرار ليس منطقيًّا؛ فقد أُعطي القطاع الخاص فرصًا عديدة لتحقيق التدرج الذي بات أسطوانة مشروخة بعد انتهاء صلاحية عذر (مخرجات التعليم)؛ إذ انتشرت الجامعات والكليات التقنية بمناطق المملكة كافة، ويضاف لها برامج الابتعاث للخارج. ولعل القرار الصادر من مجلس الوزراء رقم (50) وتاريخ 21/ 4/ 1415 هجرية خير مثال على منح فرص التدرج؛ إذ نص على أن «تقوم جميع المنشآت أيًّا كان عدد العاملين بها بالعمل على استقطاب المواطنين وتوظيفهم، بزيادة سنوية بما لا يقل عن (5 %) من مجموع عمالتها»؛ ما يعني أن آلية التدرج أُقرت منذ 23 عامًا، فهل التزم بها القطاع الخاص؟!! وهي مدة تقارب ربع قرن، فهل يحتاجون لقرن كامل حتى يطبقوا التدرج، ويصلوا للنسب التي تضمن القضاء على الانكشاف المهني ومنع سيطرة العمالة الوافدة على المهن الحرجة «تحديدًا»؟ فبعد كل هذه المدة من القرار نسبة المواطنين بالقطاع الخاص 16 % من أصل عشرة ملايين عامل فيه، فلو التزموا بقرار رفع التوطين لكانت النسب على الأقل أكثر من 50 % بالوظائف التي يمكن أن يشغلها مواطنون، ولما وصلنا لمرحلة نسبة المهن الحرجة هندسية وطبية بهذا المستوى المنخفض المقلق جدًّا في الوقت الذي يوجد فيه الآلاف من العاطلين من حملة هذه الشهادات دون أي مبرر مقنع سوى الخلل بهيكلية سوق العمل، وتقاعس الجهات المعنية عن وضع خطط توطين لهذه المهن منذ سنوات طويلة.. فوزارة الصحة تحرص على التشغيل، ولكن لم نسمع منها برنامج توطين استراتيجي، بل لم تحل إلى الآن مشكلة مقاعد التدريب التي بالكاد تكفي نصف المتقدمين من الأطباء السعوديين المتقدمين لبرامج التدريب التابعة لهيئة التخصصات الصحية؛ ما يقلل من نسب التوطين، ويطيل أمد حلول الانكشاف المهني.
فلا بد لمعالجة هذه المشكلة الكبيرة بسوق العمل، وذات التأثير البالغ سلبًا على الأمن الاقتصادي بتوطين المهن الحرجة، أن تقوم وزارة الصحة بوضع خطة محددة، تشمل كل منطقة؛ إذ تتوافر كليات صحية بجميع مناطق المملكة، فيتم معرفة احتياجها من الكوادر الوطنية من حيث الإحلال، وكذلك تغطية النمو بمدة زمنية محددة للوصول لنسبة مطمئنة، بعدها يمكن تغيير نسب القبول بحسب الاحتياج الذي يتطلبه تغطية النمو المستقبلي فقط، والوصول لأعلى معايير الخدمة عالميًّا.. فنسبة الأطباء بأوروبا تصل إلى 4 لكل ألف نسمة، بينما في المملكة لو استبعدنا الأطباء الوافدين فإن النسبة 0.6 طبيب سعودي لكل ألف نسمة، وهي متدنية ومقلقة جدًّا؛ فلذلك كان لا بد من اتخاذ خطوة حاسمة للبدء بمعالجة جانب من مشكلة هذا الملف الشائك، المتمثلة بوقف استقدام أطباء الأسنان، الذي سيتبعه قرارات مشابهة مستقبلاً بتخصصات أخرى حسب الجاهزية.