اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
لا أكتم القارئ الكريم سرَّاً، إذا قلت إنني لم أواجه صعوبة في كتابة مقال ما، كما حدث لي مع مقالي هذا الذي هو بين يديكم اليوم؛ إِذْ استغرق مني الأمر جهداً ووقتاً لم يكونا في الحسبان. فقد التهمتُ كل ما أتشرف بالاحتفاظ به في مكتبتي المتواضعة مما كُتِبَ في توثيق سيرة سيِّدي الرَّاحل الكبير البطل الفذ النبيل، والدنا صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، طيَّب الله ثراه وجعل الجنَّة مثواه.
فوجدتني أمام شخصية فذَّة فريدة نادرة نبيلة، بقدرات ومواهب استثنائية، أقرب إلى الخيال من الحقيقة في تعددها وتباينها وتنوعها واختلاف مشاربها؛ فاحترت من أين أبدأ وإلى أين يمكن أن أنتهي؛ كما أكد الشاعر سلامة الجعفري في رثائه هذا الطَّود الشَّامخ:
نايف يخلي راعي الوصف حيران
من وين يبدا فيه ويوصل لوين
كوكب سياسة يسكن بجسم إنسان
ضياه يمشي به بعاد وقريبين
إلا أنه ثمَّة شيء وحيد أكيد، كنت واثقاً منه تماماً: مهما بذلت أو بذل غيري من جهد متواضع، فلن يستطيع أحدنا التَّعبير عمَّا اتصف به الرَّاحل الكبير نايف النايف من صفات إِنسانية رفيعة، وتميز به من قيم نبيلة، والتزم به من مبادئ سامية راسخة أصيلة طيلة حياته، وما حقَّقه من إنجازات عظيمة في شتى المجالات، تعجز عنها العصبة أولي القوة من الرِّجال، وبالتَّالي ما خلَّده من بصمة ستظل راسخة إلى الأبد في وجداننا، نحن السعوديين وأُمَّة العرب والمسلمين والعالمين أجمعين، الذين أدهشهم أداء نايف؛ فنافسونا في حُبِّه واحترامه وتقديره؛ وافتقدوه مثلما افتقدناه، وربَّما أكثر، وبكوا رحيله معنا بالدمع الثَّخين، ورَثَوْه بما يستحق من عبارات صادقة، تؤكد مكانة الرَّجل الكبير، القائد النَّادر الفذ الفريد النَّبيل في قلب العالم، وجزالة عطائه، ومدى حزن الجميع على غيابه المهيب. تأكيداً لما ذهب إليه الشاعر د. علي بن مشرف الشهري، في رثائه لنايف:
أنا لست أكتب ها هنا صفحاته
فله من التَّاريخ خير لسان
هو شاهد الأيَّام ينطق في غدٍ
يروي عن الإنسان للإنسان
وصحيح، أحسب أنه لا يوجد أحد اليوم يجهل ما تركه فينا نايف النايف من سيرة ناصعة، ومسيرة مشرِّفة، وما خلَّده من مجدٍ تليدٍ؛ ولاسيَّما فيما يتعلق بتشريح مفهوم الإرهاب، وإجراء الجراحة اللاَّزمة في مسارات عديدة، تعمل بالتَّوازي لاستئصاله؛ وتنبيه العالم لخطره الدَّاهم، في وقت كان الجميع، بمن فيهم الدّول التي تُسَمَّى (عُظْمَى)، يغط في نوم عميق، غارقاً في المؤامرات والدَّسائس والمكر والعداوات المصطنعة، حتى وقعت الفأس على الرأس، وصدق حدس نايف واستشرافه للمستقبل، انطلاقاً من قراءته العميقة للواقع، الذي يعد من أبرز السِّمات التي اتصف بها، كما أجمع كل من تشرَّف بمعرفة سموّه الكريم عن قرب أو بالعمل معه.
فعبر الإرهاب القارات، وانتشر في كل أرجاء الدُّنيا، ودخل حتى غرف نوم أولئك الذين لم يأخذوا الأمر على محمل الجد، متوهمين أنهم في مأمن أبدي من شر هذه الآفة الشِّريرة العمياء، التي استشرت كالنَّار في الهشيم، فزلزلت العالم، وشغلت النَّاس عن العبادة والعمل والإنجاز، والاستمتاع بالحياة، بعد أن نشرت فيروس الخوف في كل مكان، لم يخفها تجييش العالم ضدّها، ولم تردعها حتى (أم القنابل). فندم أولئك الذين وضعوا أصابعهم في آذانهم لتحذير نايف المبكر لخطر الإرهاب الأعمى، وعضُّوا على أناملهم حتى قطعوها من شدَّة النَّدم، حالهم كحال الكسعي في قصته الشَّهيرة، التي أنشد إثرها:
ندمتُ ندامة لو أنَّ نفسي
تطاوعني إذاً لقتلت نفسي
تبيّن لي سفاه الرأي مني
لعمر الله حين كسرت قوسي
وقد كانت بمنزلة المفدَّى
لديَّ وعند صبياني وعرسي
فلم أملك غداة رأيتُ حولي
حمير الوحش أن ضرَّجت خمسي
كلُّ النِّداء إذا ناديت يخذلني
إلا النِّداء إذا ناديت: يا مالي
وعليه، رأيت ألا أتحدث عن إنجازات نايف التي قطعاً يدركها كل مهتم بالشأن العام، بقدر ما انصرف للحديث عن موسوعة القيم النَّبيلة التي تحلى بها سموّه الكريم، رحمه الله وغفر له، وعن تلك المبادئ السَّامية الأصيلة، التي عاش من أجلها، وبذل كل ما استطاع من صبر وقدرة وقوة وسعة حيلة، لترسيخها في وجداننا إلى الأبد.
فأقول: صحيح.. كان الرَّاحل الكبير الفذ النَّادر الأصيل، وزير داخلية، إلا أنه كان وزيراً بمواصفات زعيم دولة كبير، وقائد أُمَّة فريد، وبطل رسالة خالدة جسور، أدرك معنى الاستخلاف في الأرض منذ أن أبصرت عينه النَّور، فتشبَّثت همَّته بالثُّريا، وتشرَّبت نفسه الكريمة بمكارم الأخلاق؛ وقبل هذا وذاك، تشبَّعت روحه الطَّاهرة بالثَّقة بالله، بعد أن تغلغل الإيمان عميقاً في كل خلية من جسده، التزاماً بمنهج المؤسس الباني والد الجميع، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، طيَّب الله ثراه وجعل الجنَّة مثواه، سيراً على خطى الآباء الكرام والأسلاف العظام، في خدمة العقيدة، والسَّعي لخير الأمة، ونفع النَّاس من كل الأعراق والأجناس، حيثما كانوا.
أجل.. كان نايف وزير داخلية، غير أنه كان وزيراً استثنائياً، ليس كبقية وزراء داخلية العالم، الذين لم تتجاوز مسؤوليتهم أسوار وزارتهم، ولم يذهب تفكيرهم أبعد من المعالجة الشُّرطية والقبضة الحديدية في أداء واجباتهم، وزوار السَّاعات الأولى من الفجر، الذين يُنَكِّلون بأفراد الأسرة كلهم، بسبب جريرة أحدهم، مهما كانت بسيطة؛ متناسين أو ناسين المبدأ السَّامي الأصيل، الذي لم يكن يغيب مطلقاً عن ذهن نايف الشَّهم الحُر النَّبيل في معالجة أية مشكلة: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؛ جاهلين أو متجاهلين أن سلوكهم هذا، هو عينه النَّبتة الأساسية السَّامة، التي نبت منها الإرهاب وعليها تغذَّى، حتى اشتد عوده، فأصبح يضري في العالم كحاطب الليل، بما يسببه مثل ذلك السلوك المشين من غبن وظلم، ويغرسه في النّفوس من حقد دفين.
أجل.. كان نايف، عليه رحمة الله، وزير داخلية، إلا أنه كان مع هذا، لبنة متينة أساسية في تشييد هذا الصَّرح الشَّامخ، وركناً أصيلاً في علو بنيانه، ورفعة شأنه، ونشر المحبَّة بين أهله، وتوثيق عُرى الأخوة بين جيرانه؛ فضلاً عن تحقيق أمنه واستقراره ونمائه، وريادته بين الأمم، في السِّياسة والاقتصاد والحرب والسَّلام.
أما فيما يتعلق بمهمته الأساسية في وزارة الداخلية بضبط الأمن وتسيير شؤون الحكم المحلي، فمثلما ارتبطت نعمة توحيد شبه الجزيرة العربية وتأسيس دولتنا الفتية هذه على كتاب الله سبحانه وتعالى، وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلَّم - بالقائد المؤسس الباني الملك عبد العزيز آل سعود، ارتبطت نعمة الأمن والأمان وتحقيق العدالة في الأحكام، بابنه البَّار الذَّكي اللَّماح، نايف. فما يكاد يُذْكر الأمن أو العدل اليوم، إلاَّ يُذْكر معه نايف، مهندس الأمن البارع، ومسؤول العدل الأول، الذي أصبح مضرب المثل في العالم بما عُرف عنه من إِنسانية وحكمة، وعقل راجح وفكر متقدم، وكفاءة غير عادية، وقيادة استثنائية، وإنجازات تواضع أمامها عطاء رؤساء دول في كثير من بلدان العالم.
وتؤكد حالة الأمن الشَّامل والاطمئنان والأمان الذي ننعم به في بلادنا مواطنين ومقيمين وزائرين وحجاجا ومعتمرين، منذ بزوغ فجرها الأول إلى الأبد إن شاء الله، دونما حاجة لإعلان طوارئ أو حظر للتجوال، كما يحدث في كل دول العالم تقريباً، لأبسط الأسباب أحياناً، مع موقعها الاستراتيجي في منطقة ملتهبة بسبب تهافت النفوذ العالمي عليها، شهدت أحداثاً جسيمة زلزلت عرش دول، ومزَّقت أخرى لدويلات، وحوَّلت مواطني ثالثة كلهم لجيش وشرطة لحفظ الأمن دون جدوى؛ إضافة لريادة بلادنا الاقتصادية ومكانتها الإسلامية، مما جعلها هدفاً لكثير من أصحاب العقول غير السَّوية، لأنّها مصدر إشعاع روحي، ومورداً أساسياً لطاقة العالم، وعليها يعول المجتمع الدّولي في تحقيق رخائه.. يؤكد هذا كله، أن كل ما قيل أو سوف يقال في وصف نايف ومدرسته الفريدة المتميزة، التي أحكمت ضبط التناغم بين الحزم واللين، وبين المواجهة والمناصحة، وبين المباغتة والتّأني، وبين الاحتواء والمعالجة، بشكل لم يسبق له مثيل.. يؤكد هذا، أن كل ما قيل أو يقال في حق هذا الرَّجل الكبير القائد الجسور، نايف النايف، يظل أقل حتى من نزر يسير من كثير حقه علينا.
أجل.. كان نايف مدرسة حقيقية بما وهبه المولى سبحانه وتعالى من حكمة قيادية واعية، وفراسة لا تخطئ، وذكاء وسرعة بديهة، وقدرة هائلة على العمل وضبط النفس، وهيبة وهدوء ورزانة، وصبر مع حزم دون شطط، وحلم دون تهاون أو تفريط، وشجاعة لا تخطئها عين، وعاطفة جيّاشة تجاه الفقراء والمحتاجين؛ بل حتى المساجين الذين غرَّر بهم المجرمون؛ فضلاً عن سعة ثقافته، وعمق وعيه، وقدرته الاستثنائية على استشراف المستقبل، كما تقدم، التي تظهر من خلال وصيته الدائمة للإعلاميين كلَّما التقى بهم: (لا تفكروا في الزَّمن الذي تعيشونه فقط، ولا تفكروا في اللَّحظة الرَّاهنة، فكروا في ما هو أبعد، فكروا في هذا العالم ككل بصفتكم جزءاً منه)؛ إضافة إلى سعة معرفته بالزَّمن وتحولاته، وما يحدثه في المجتمعات من تأثير وتغيير، وقراءة صحيحة للواقع، هذا كله بجانب ما عرف عنه من شهامة وكرم، ومروءة وتواضع، وحسن استماع، واهتمام بالرأي الآخر، وسعة صدر، وحرص على العدل، واحترام للقانون والنِّظام، وتقدير للعلم والعلماء، وصدق نيَّة، وسلامة طوية، وحب صادق لمواطنيه ووطنه، وإخلاص لأمته، وولاء لا نظير له لعقيدته، ووفاء للإِنسانية عامة أينما كانت؛ وإيمان بالله لا تحده حدود، جعله يوقن أن القوة والسُّلْطة وحدهما لا يحققان الأمن الحقيقي مهما كانا؛ بل الإيمان وحده هو الكفيل بهذا، لأن ثمرته هي الهداية إلى الطريق المستقيم الذي يرفض الاعتداء على النَّاس، مثلما يحرص على المصالح ورعاية المجتمع وتحقيق الخيرية للبشرية.. ولهذا كان يؤكد دائماً أن ما أصاب أمتنا من ضعف وتقاعس عن اللِّحاق بركب العالم في شتى الميادين، وتحلُّل أخلاقي، وتطرف وغلو، وفتن ومحن لا أول لها ولا آخر، يعود أساساً لبعدها عن العقيدة السَّمحة، التي ترتكز على كتاب الله وسُنَّة رسوله، عليه الصلاة والسَّلام.
ولهذا كله وغيره كثير مما لا يتسع المجال لسرده من قيم نبيلة ومبادئ سامية أصيلة، عرف بها الرَّاحل الكبير نايف، حلَّق رحمه الله بوزارة الداخلية عالياً، لمفهوم أكثر شمولاً من تلك الصورة النَّمطية المخيفة، التي تنحصر في الأمن الداخلي والحكم المحلي، اللذين يقومان على الصرامة والقسوة فقط.
أجل.. هكذا كان نايف، قائداً حقيقياً، وملكاً غير مُتوَّج، فلا غرو إذن أن جعل من وزارة الداخلية (أم الوزارات) فعلاً.. لا قولاً. فاهتم بتمكين المواطنين والعاملين معه من المعرفة والتعليم والتدريب والتَّثقيف الحقيقي؛ انطلاقاً من منهجه الفكري الفريد الذي يرتكز على ترسيخ العقيدة الإسلامية السَّمحة، وتقوى الله في السِّر والعلن، والالتزام بثوابت الأُمَّة وقيمها الأصيلة، وتعزيز شعيرة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وتأصيل الوسطية والاعتدال، وترسيخ الحوار والمناصحة، والرفق في مواجهة الغلو والتطرف. وعزَّز هذا كله بما أنشأه من كراسي علمية متخصصة داخل البلاد وخارجها، ورصد جوائز قيِّمة لحفظ السُّنة النَّبوية الشَّريفة، ونشر أبحاث ودراسات الفكر الإسلامي الصحيح، سعياً لتوطيد الأمن في العالم. كما اهتم بتوفير فرص عمل لأبناء البلاد من الجنسين، فكان أول من فكر في مشروع السّعودة، حرباً للبطالة والعطالة بين الشَّباب وتمكينهم من التَّمتع بحقهم في العمل. وسوف تظل مقولته الشَّهيرة تتردد في سمع كل الوطنيين الغيورين على مصلحة الوطن، حتى تحقيق حلمه: (السَّعودة ليست شعاراً يُردَّد، ولا مجرد لقاءات تتجدد، وإنما هي مصلحة وطنية تنشد).
أجل.. قلت: لن أُسهب في الحديث عن مولد نايف الميمون في الطايف، ولا عن نشأته المباركة ومدرسة عبد العزيز العريقة، التي تشرَّب فيها نايف تلك القيم النَّبيلة والمبادئ السَّامية الرَّاسخة الأصيلة، ولا عن المناصب التي تقلدها، والمسؤوليات الجسيمة التي اضطلع بها، ولا عن إنجازاته التي تُعْجِز محصيها، ولا عن الأوسمة والجوائز والنياشين التي مُنحت له داخلياً ومحلياً وعالمياً، فازدانت باسمه وازدادت شرفاً، ولا عن شهادات الدكتوراه الفخرية من أعرق الجامعات المحلية والعالمية في مختلف العلوم والمعارف، من القانون إلى العلوم الأمنية وخدمة السُّنَّة والعلوم السِّياسية والأعمال الإِنسانية... إلخ؛ ولا عن جهوده العربية والعالمية، التي ستظل علامة فارقة في تاريخ البشرية على الأبد.
أجل.. قلت لن أسهب في تلك الجوانب، لأن البحث فيها يتطلب وقتاً وجهداً قد لا يتوافران لي، كما أن الحديث عنهما ربما يتطلب كتباً أو بالأحرى مجلدات، نظراً لشمولية شخصية نايف وتعدد إنجازاتها. ولهذا اكتفيت بالحديث، قدر الإمكان، عمَّا تحلَّى به من قيم ومبادئ لتكون هادياً لكل من اضطلع بوظيفة عامة، وقدوة للأجيال اللَّاحقة للسير على خطى نايف في خدمة رسالة دولتنا ونفع النَّاس.. فالتَّشبُّه بمثله فلاح ونجاح وصلاح.
كان نايف زعيماً صاحب قلب كبير يسع العالم، وعاطفة صادقة، وحرص شديد على أبنائه المواطنين، حتى المخالفين والمناوئين منهم الذي تم التغرير بهم فسلكوا سبيل الضلال؛ ففجروا وقتلوا وخربوا، فابتكر نايف سياسة مثالية فريدة في استباق خططهم الشَّيطانية، ووجَّه العلماء وطلبة العالم بمناصحتهم، كما وجَّه المسؤولين بضرورة معاملتهم بالحسنى وعدم إلحاق أي ضرر أو أذى بهم؛ بل أكثر من هذا، كان يطمئن على أهاليهم ويعتني بأُسَرِهم ويُمَكّنهم من لقائهم، ويسمح لهم بحضور المناسبات، كالأعياد والزواج، وتشييع الموتى وحضور أيَّام العزاء في أقرباء الدَّرجة الأولى، والتكفل بنفقات الحج والعمرة والزواج؛ فضلاً عن توفير الإعاشة الكريمة والخدمات الصِّحية اللَّازمة.
وعلى الجانب الآخر، كنَّا نراه يجوب البلاد في اليوم نفسه من أقصى شرقيها إلى أقصى غربيها، ومن أقصى شماليها إلى أقصى جنوبيها، معزِّياً أسر شهداء الواجب ومتكفلاً بكل متطلبات أُسَرِهم ووالديهم. وكان بجانب هذا، رحيماً بالفقراء والضعفاء وكبار السِّن وذوي الاحتياجات الخاصة، حريصاً على التَّدخل في كل ما يتعلق بإبراء الذِّمة؛ شديد الاهتمام بحل الخلافات القبلية في مهدها، إضافة لحرصه على التواصل الدائم مع كافة شرائح المجتمع.. يزور المريض، يشيِّع الموتى، يجيب الدعوة، يهنئ السَّعيد ويساعد المحتاج. إِذْ تلقى المئات، إن لم يكن الآلاف، من أبناء المجتمع تعليمهم في جامعات أوروبا وأمريكا على نفقته الخاصة. وكان يفعل كما فعل عبد العزيز من قبل تماماً: يضع مبالغ مالية في السَّيارات التي ترافقه في رحلة الصيد، فيوزعها على الفقراء والمحتاجين وكبار السِّن.
أما عن مواقف نايف، فقد حفل كتابي (نايف الإِنسان.. أسطورة الأمن والأمان)، الذي تشرَّفت بالتوثيق فيه لرحيله المفجع ضمن سلسلة (رجال صدقوا)، بمواقف تقشعر لها الأبدان. ولأنها عديدة لا يمكن حصرها، إِذْ حفلت كل صفحة فيه تقريباً بموقف أكثر دهشة من سابقه، بل لأن حياته كلها مواقف نبيلة شهمة كريمة، أكتفي هنا بنموذجين اثنين فقط؛ الأول: يقول الأخ عبد العزيز البابطين: التقيت الأمير نايف إثر احتلال صدام للكويت، فقال لي: (اسمع يا عبد العزيز، والله، ثم والله، ثم والله، لن يُفْقَد لكم ولا عقال بعير بإذن الله.. أنتم راجعون إلى بلدكم ما دامت المملكة العربية السعودية قائمة). ويذكرني هذا مقولة الفهد الشَّهيرة للعراقيين، الذين توهموا إمكانية سكوت السعودية على ما ارتكبوه من جناية وسابقة خطيرة بحق أشقائنا الكويتيين، مما يؤكد أنهم لا يقرؤون التاريخ: (إما أن تبقى الكويت والسعودية، أو تفنى الكويت والسعودية.. مستحيل تبقى منهما واحدة وتفنى الأخرى).. لله درَّكم من قادة؛ تلك ذرية بعضها من بعض. أما الموقف الثاني: أمر نايف بتوقيف مدير قسم شرطة السَّلامة بجدة، عندما علم أن إحدى سيارات سموّه اصطدمت بمعتمرة مغربية، دون أن يَتمَّ حجز السيارة وتوقيف السائق. فأمر نايف بالبحث عن تلك السيدة، ومن ثم التَّحقيق في الحادثة، فتبيّن أنها تنازلت بمحض إرادتها، لأنّها لم تكن تعاني إلا من كدمات بسيطة، ومع هذا، قدَّم لها نايف عن طريق مندوبه مبلغاً مالياً مجزياً، فعقدت الدَّهشة لسانها من صنيع قائد يتمثل دوماً مبدأ: (لو أن بغلة عثرت، بالعراق، لرأيتني مسؤولاً عنها أمام الله، لِمَ لَمْ أُسَوِّي لها الطريق).
هو إذن عدل عبد العزيز، الذي يعاقب طفله الصَّغير بيده الكريمة بسبب اعتدائه على طفل آخر من أبناء المواطنين. ويكتب للقاضي: (من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، إلى القاضي «فلان بن فلان».. أنا وكيل هذه السيدة شرعاً أمامك). ثم يأمر بذبح بقرة أنكر صاحبها أنه اعتاد السماح لها بأكل برسيم جارته المسكينة؛ فلما وجد البرسيم في كرش البقرة، أجبر عبد العزيز صاحبها على تعويض جارته، محذِّراً إيَّاه أن يشتكي منه أحد ظلماً أو اعتداءً بعد اليوم.
وهو عدل سلمان نفسه، قائد مسيرتنا اليوم وحامل لوائنا إلى المعالي، الذي نتفيأ ظله الوارف، إِذْ يتساوى فيه الأمير والوزير والخفير في الحقوق والواجبات وتنفيذ العقوبات، حيث لا سلطان إلا للشرع، ولا شفاعة إلا لإحقاق الحق وإقامة العدل.. لله درَّكم من قادة! تلكم إذن ذرية بعضها من بعض.
ومثلما أكدت في مطلع المقال، يحتار الإِنسان كثيراً عند الحديث عن القائد الكبير نايف، الذي حمل ملفات عديدة في الداخل والخارج، واضطلع بمسؤوليات معقدة تنوء بحملها العصبة من أولي القوة. ولهذا رأيت أن أقف هنا عند هذا النزر اليسير، الذي لا يعدو أن يكون جهد مقل، لأختم ببعض أبيات حاولت (قبيلة الشعراء) فيها، مشكورة سرد بعض قيم نايف ومبادئه، وما حققه من إنجازات مدهشة إثر رحيله المفجع؛ إِذْ يقول الشاعر د. أحمد بن محمد الأهدل:
قد كنت فينا مكرماً لكبيرنا
وصغيرنا يا طيب الأخلاق
ثم يستطرد مؤكِّداً رأفته بالسجناء:
وكذا السجين عفوت عنه مبرة
أنقذته من عصبة الفُّسَّاق
ويقول الشاعر مصلط فيصل المصطفى:
بأرض الشام يبكيك اليتامى
ونجد كلها تبكي التياعا
ويقول الشاعر راكان بن عبد الله آل مجدوع:
يفقدك شعب أمنته في سلام
ويفقدك أيتام كنت تعولها
أما الشاعر سهل بن بندر المقاطي، فيصف كرم نايف قائلاً:
غيث على شعبه من الخير هتَّان
هو والكرم دايم أخوان ولايف
وتكاد (فتاة نجد) تجمع كل ما يريد الشعراء قوله في وصف نايف، في شعر جزل، كعادتها دائماً:
فقيد نصرة الحق والدين
مِدِّيِ حقوق الله وحقوق دينه
لا قيل نايف، قال الناس: نعمين
الرأي صايب والمواقف ثمينة
مركزه الأول في جميع الميادين
صمام الأمن المستقيم وعرينه
وعلى كل حال، كثيرة هي المشاعر التي أجَّجها رحيل نايف؛ ومثلما قال سموه الكريم يوم رحيل سلطان: لو أن الأعمار تُهْدَى، لأعطينا سلطان أعمارنا؛ نقول نحن اليوم بلسان الشاعر نايف الرشدان:
قلوب تمنت أنَّ للموت فدوة
وأنَّ المنايا تترك الأمر بيننا
إلا أننا نؤكد إيماننا بالقضاء والقدر الذي لا مفر منه، مستسلمين لمشيئة ربِّ العالمين، كما يستطرد الشاعر الرشدان:
حبل الأماني للمنايا يجرها
ومن نحن إن شئنا إذا شاء رَبُّنَا؟
فجزاك الله عنَّا خيراً يا نايف، إِذْ جعلت بلادنا مرجعاً في محاربة الإرهاب وتوطيد الأمن وترسيخ الاستقرار، كما شهد شاهد من أهلها، إِذْ أوردت فضائية الـ (CNN)، الأمريكية، وأنا أختم مقالي هذا: (يمكن لترامب القضاء على داعش نهائياً، إذا استفاد من دروس السعودية في مكافحة الإرهاب).
وأخيراً: لا نملك إلا أن نردِّد جميعاً بلسان شاعرنا مناحي الفرزة، داعين الله لك يا أسد السُّنَّة بالرحمة والمغفرة:
رحمك الله يا نايف، رحمك الله يا شيهان
رحمك الله يا سيرة درسنا من مباديها
تعلمنا بها الحكمة على العزة على الإيمان
رحمك الله يا ذكرى محدٍ بعده بناسيها
رحمك الله يا قدوة يسير بدربها الإنسان
رحمك الله يا غيرة على الملَّة وطاريها
وقبل أن أختم، أجده لزاماً عليَّ أن أتوجه بأصدق آيات الشكر والتقدير والعرفان والامتنان، لراعي الوفاء، الذي عرفه العالم (أوفي من الوفاء)، سيِّدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، راعي معرض (نايف.. القيم)، والشُّكر موصول لجامعة المؤسس التي أخذت على عاتقها تنظيم هذا المعرض السَّنوي، الذي يُعد لفتة وفاء مهمة لنقول من خلاله: (شكراً.. كفيت ووفيت يا نايف القيم والمثل والمبادئ).. صدق الفهد، الذي لم يجرب عليه أحداً كذباً يوم قال: (نايف.. الفلتة فينا يا عيال عبد العزيز).
وكما قيل: رُبَّ صدفة خير من ألف ميعاد، فقد تزامن هذا المعرض مع (جائزة الأمير نايف العالمية للسُّنَّة النَّبوية الشَّريفة في دورتها التاسعة)، وأيضاً مع (جائزة الأمير نايف للمرأة المتميزة في دورتها الثانية)، التي ينظمها (صندوق الأمير سلطان بن عبد العزيز لتنمية المرأة).. وبهذه المناسبة، أتمنى على جامعة الأمير سلطان، أن تحذو حذو جامعة المؤسس، فتنظم مؤتمراً سنوياً أيضاً بعنوان (سلطان.. القيم)، عرفاناً وامتناناً لما خلَّده الراحل الكبير القائد سلطان الخير في وجداننا.
وختاماً: نعاهد نايف اليوم مثلما عاهد سموه سلطان: ستظل يا نايف في الأذهان ما دامت هذه الحياة باقية. أما أولئك الجبناء المرجفون الذين يشمتون بالموت، فنقول لهم بصوت واحد نردّده خلف شاعرنا منصور الرويلي:
نايف رحل، لكن عزانا بالأخيار
اللي خذو من وصف نايف وصايف
على العهد يبقون وافين الأشبار
بغياب نايف بالوطن ألف نايف
فلنتمثَّل جميعاً مع الشاعر د. علي الشهري وصية نايف:
هذي الوصايا الشاهدات على المدى
بالحب والإشفاق والإحسان
أوما أمرت بأن ندافع كلنا
عن ديننا عن هذه الأوطان؟
عن هؤلاء الجيل عن أبنائنا
مما يحاك لنا من العدوان
وشعيرة الأمر التي عظمتها
وعددتها ركناً من الأركان
وكل السعوديين اليوم، وإلى الأبد... نايف.