د.عبدالله مناع
تلبية لـ(دعوة) ربيعية.. جاءت في وقتها -كما يقولون- مع نهاية شهر إبريل الماضي.. أو شهر أعياد (شم النسيم) كما يسميه أشقاؤنا المصريون.. كنت أجد نفسي سعيداً بين كوكبة من الأصدقاء والزملاء الأعزاء، ومع أضعافهم من أشقائنا المصريين.. من نجوم الثقافة والأدب والإعلام، الذين لا يقلون (مَعزَّة) عنهم ومحبة لهم، وقد اكتمل جمعنا في قاعة (طيبة) بفندق (سميراميس).. الشهير في قلب القاهرة.. في انتظار بداية الحفل الثقافي الفني الذي دعا إليه الصديق العزيز الأستاذ محمد سعيد طيب.. صاحب «الثلوثية» الأشهر.. للاحتفاء بـ(ابن عمومته): السفير محمد أحمد طيب.. بعد (تقاعديه): من الخارجية السعودية كمدير عام لفرعها في منطقة مكة المكرمة، ومن تمثيل المملكة لدى منظمة التعاون الإسلامي.. احتفاءً يليق بمكانته ومحبته وتقدير المجتمع له نظير خدماته التي كان يقدمها لـ(مواطنيه) جميعاً بحماس ورحابة صدر قل نظيرهما.. وبما يؤكد انتماءه لجيل (السفراء العظام) من أمثال الشيخ (محمد عبدالله علي رضا) في سفارتيه لـ(القاهرة) فـ(باريس)، والشيخ (ناصر المنقور) في (سفارتيه) لـ(مدريد) فـ(لندن)، والشيخ (جميل الحجيلان) في سفارته الطويلة الباهرة لـ(باريس).
بدأ (الحفل) في موعده.. بداية ثقافية - وكما يصح - في أمثال هذه الاحتفاليات التي تجمع بين (الثقافة) و(الفن).. حيث بدأ بكلمة من (المحتفِي) وأخرى من (المحتفَى به).. وبـ(ثالثة) للدبلوماسي المصري المعروف والمثقف والكاتب العربي الكبير الدكتور (مصطفى الفقي).. عبر فيها عن سعادته بحضور هذا (التقليد) الوداعي الجميل، الذي بعُد العهد به!!
بـ(المصادفة) وحدها.. وجدتني أشارك بـ(الجلوس) على المائدة الأولى.. التي كان يجلس عليها عدد من أساتذة الجامعة، وقد التفوا حول المستشارة الدكتورة (تهاني الجبالي) عضو المحكمة الدستورية العليا.. صاحبة الكلمة الفصل في كل ما يتعلق بالدستور المصري من تجاوزات أو مخالفات، وهو ما فتح الباب أمامي.. للاستيضاح منها عن كل ما يتعلق بـ(المحكمة الدستورية): كعدد أعضائها، وحجم تمثيل المرأة فيها، أو حجم التمثيل القبطي أو (المسيحي) فيها..؟ لتفيدني.. بأن عدد أعضاء المحكمة هم (ثلاثة عشر)، وأن المرأة ممثلة فيها بـ(عضوين) كـ(التمثيل) المسيحي فيها.. لينتهي ذلك الحوار (المعلوماتي) الجميل معها.. مع نهاية الجانب الثقافي من الحفل، وبدء الفرقة الموسيقية التي اعتلت منصة القاعة.. بمداعبة أوتار آلاتها الموسيقية.. استعداداً لبدء الحفل الموسيقي، الذي كان مرتباً له.. أن يقدم أغاني (الزمن الجميل) وحدها، أو (حلاوة زمان) كما تسميه الإذاعية التلفزيونية الموهوبة: (إيتان الموجي) في برنامجها الأسبوعي المخصص لتقديم أغاني ذلك الزمن الجميل، ليبدأ الحفل بتقديم نشيد (مصر التي في خاطري).. الذي كتبه شاعر مصر الغنائي الكبير الأستاذ (أحمد رامي)، ولحنه أمير الموسيقى العربية.. الأستاذ (رياض السنباطي) وشدت به شادية كل العصور والأزمان: كوكب الشرق.. أم كلثوم، ليتحول.. حضور تلك الليلة إلى (كورال) يردد خلف المغنية عند سؤالها: (بني الحمى والوطنِ.. من منكمُ يحبها مثلي أنا)؟ قائلين: (نحبها من أرواحنا.. ونفتديها بالعزيز الأكرم).
ليختتم حفل أغاني الزمن الجميل - زمن عبدالوهاب وأم كلثوم وفريد وعبدالحليم وليلى مراد ومحمد فوزي وفايزة أحمد ونجاة وشادية ووردة وطِلِب وكارم محمود ومحمد رشدي - بمثل ما بُدئ به: بـ(مقطعي) البداية والنهاية.. من (رائعة أم كلثوم والسنباطي) الخالدة (الأطلال).. التي يقول مطلعها: (يا فؤادي لا تسل أين الهوى؟ كان صرحاً من خيال.. فهوى/ اسقني واشرب على أطلاله.. واروي عني طالما الدمع روى)، والتي يقول ختامها: (يا حبيبي.. كل شيء بقضاء.. ما بأيدينا خلقنا تعساء/ ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم.. بعدما عزَّ اللقاء/ فإذا أنكر خلٌّ خله.. وتلاقينا لقاء الغرباء/ ومضى كلٌّ إلى غايته. لا تقل: شئنا! فإن الحظ شاء)!!
كان (الختام) رائعاً غنائياً.. لتلك الليلة، إلا أن حضورها لم ينصرفوا (كلاً.. إلى غايته).. بل كانوا يلتفون - في قاعة أخرى مجاورة - حول السفير الطيب بـ(مشاعرهم) و(تمنياتهم) ودعواتهم له بالتوفيق في بقية محطات حياته القادمة، فقد كان «حضور» سعادة السفير (المتقاعد) وتألقه.. يكذبان أرقام شهادة ميلاده..!
* * *
في صبيحة اليوم التالي.. كانت بعض صحف القاهرة تتحدث عن (تطوير) منطقة (ماسبيرو)..!! لتأخذني حالة من الهلع والرعب على المبنى التاريخي لإذاعة وتلفزيون القاهرة، والذي عرف باسم (ماسبيرو).. مخافة أن لا يكون لهذا (التطوير) من هدف غير (الاستيلاء) على الأرض و(المبنى) التاريخي الذي أصبح معلماً من معالم القاهرة منذ إنشائه في القرن الماضي، ثم إزالته فيما بعد.. لبناء أبراج سكنية مكانه تدر على (المستثمر) إن كان فرداً أو شركة مئات الآلاف من الجنيهات، وكما حدث من قبل.. عند بيع (فيلا) أم كلثوم -الشهيرة بحي الزمالك- بـ(حجة) رغبة (الورثة).. بدلاً من نزع ملكيتها وتحويلها -كما يجب- إلى (متحف) يضم مقتنيات سيدة الغناء العربي.. وتسجيلاتها واسطواناتها.. فما أكثر حجج (لصوص الأراضي)، الذين يسمون أنفسهم بـ(المستثمرين) أو «المطورين) ممن لا تعنيهم حضارة الوطن أو ثقافته أو تاريخه بقدر ما تعنيهم فرص العثور على أفضل المواقع لـ(استثماراتهم) العقارية، وليس هناك أفضل من منطقة (ماسبيرو) على كورنيش النيل، التي سميت باسم عالم الآثار الفرنسي الأشهر (جاستون ماسبيرو)، الذي قدم إلى مصر عام 1881م.. ليخلف عالم الآثار الفرنسي (ماربيت).. في إدارة (مصلحة الآثار المصرية) في ذلك الوقت، فتواصل بقاءه وعطاءه وإخلاصه لمصر وآثارها: عناية واكتشافاً وحفاظاً عليها من محترفي سرقة الآثار المصرية والإتجار بها، فلم يغادرها قرابة أربعين عاماً.. إلإ في مطلع القرن العشرين مع انطلاقة الحرب العالمية الأولى عام 1914م.. بعد أن أنشأ بها (المعهد الفرنسي للآثار)، الذي لم يعتن - فقط - بـ(الآثار الفرعونية).. بل امتدت عنايته إلى الآثار الإسلامية والقبطية، فقد غدا (ماسبيرو) عاشقاً لكل (مصر).. متيماً بآثارها.. فكان أن أطلق المصريون (اسمه) على تلك الأرض (تكريماً لأعماله الجليلة ومساهماته في البحث والمحافظة على آثار مصر القديمة)، وعندما أقيم عليها مبنى (الإذاعة والتلفزيون) فيما بعد.. بـ(فخامته) وتفرده أصبح يطلق عليه (مبنى ماسبيرو)، ليلعب هذا المبنى أعظم الأدوار الإعلامية والثقافية والفنية في الستينات على المستويين: المصري والعربي.. ليكون بحق مَعْلماً ومُعَلماً لأجيال من المصريين والعرب، وهو ما أخافني عليه من لعبة (التطوير) وخداعها.. لولا أن خفف من هلعي عليه أحد الزملاء الصحفيين المصريين الغيورين على مصر وتاريخها.. عندما أخبرني بأن أحاديث اصحافة عن (ماسبيرو) لا تعني مبنى الإذاعة والتلفزيون بـ(ماسبيرو)، ولكنها تعني الأراضي المحيطة بـ(المبنى) والتي تمتلئ بالكثير من العشوائيات، التي وضعت لها الحكومة المصرية.. خططاً لتطويرها بـ(خيارات) منصفة مقنعة لـ(ملاكها).. إلا أن الجدل مازال يدور حول تلك الخيارات بين القبول والرفض وطلب التعديل.. أما مبنى الإذاعة والتلفزيون فسيبقى كما هو وكما كان دون أن تُمس شعرة منه، وهو ما طمأنني وأسعدني.. وجعل يومي يمر رخاءً، لأستمتع بـ(ربيع) مصر.. الذي كان هذا العام وكأنه امتداد لشتائها الجميل، الذي يقصده أفضل (سواح) العالم كل عام.. ليس بزيارتهم لـ(القاهرة) وحدها.. بل وإلى زيارة (الأقصر) و(أسوان): بلد الآثار، وسد مصر التاريخي العظيم..!!
* * *
إلى جانب (أخبار) الصحافة عن (ماسبيرو) كانت هناك (أحاديث) للصحفيين، عن أحدث إصدار صحفي.. أصدره سكرتير تحرير الأهرام الأستاذ (أنور عبداللطيف) عن الأستاذ محمد حسنين هيكل بعد عام على وفاته بعنوان (هيكل.. الوصايا الأخيرة).. يروي فيه تجربته الطويلة في صحيفة الأهرام متدرباً ومحرراً فسكرتيراً للتحرير.. وقد قدم الكتاب.. بـ(مقدمة) لا تخلو من الطرافة تحت عنوان (على سبيل الإهداء) وقد بدأها بـ(لحظة) ترقيته عندما أصبح (سكرتيراً لتحرير الأهرام).. وهو موقع يتنافس عليه الصحفيون.. في أي صحيفة فضلاً عن أن تكون تلك الصحيفة هي (الأهرام) باسمها وتاريخها الطويل ومكانتها بين صحف القاهرة وصحف العالم أيضاً إلا أنه عندما عاد إلى المنزل لـ(يبشر) والدته التي لا تعرف عن الصحافة شيئاً بهذه الترقية الهامة في حياته.. فوجئ بـ(استصغارها) لها، وهي تقول له بـ(استخفاف): (سكرتير!!.. سكرتير مين يعني؟!).
فرد عليها باعتزاز وفخر (أنا مش سكرتير حد. أنا سكرتير تحرير الأهرام.. ودي مهنة شريفة.. واسمها كده)!!
ورغم شرحه لأهمية منصب (سكرتير التحرير) وتفاصيل مسؤولياته في إخراج الصحيفة وتجميلها، وحفظ شخصيتها وأسرارها.. إلا أن خيبة أملها فيه لم تتغير، واكتفت (بالدعاء له بطول العمر وراحة البال، وهي تتمنى أن تراه سكرتيراً لأحد عظماء الصحافة كالأستاذ هيكل أو مصطفى أمين)..!!
وقد تحققت أمانيها.. بعد ثلاثين عاماً عندما اختاره (الأستاذ هيكل ليكون أحد القلائل الذين يأتمنهم على كلماته، وسكرتير التحرير المسؤول عن إخراج أهم وآخر ما قال وما كتب).. ليكتب كتابه الجميل هذا الذي أهداه إلى روحها.
لتبقى (القاهرة) بعد وقبل كل هذا.. في شتائها كـ(ربيعها): ليل.. نابض بـ(الحياة)، و(نهار) مزدحم بـ(الأشخاص والأفكار واللقاءات..!