إعداد - د. محمد بن يسلم شبراق:
ويستمر شريط الذكريات عن الطيور البحرية المهاجرة إلى الجزر والمناطق الساحلية للتناسل في هذا الوقت من أشهر الصيف من كل عام، فبعد جزيرة -أيل أف مى- أنتقل في هذه المقالة عن ذكريات جميلة مع طيور بحرية مهاجرة للبحر الأحمر والخليج العربي للتناسل. صحيح أن هناك فرقا كبيرا بين صيف الجزر في بحر الشمال والصيف في بحرينا البحر الأحمر والخليج العربي، فارتفاع درجات الحرارة في هذا الوقت من العام بالبحر الأحمر والخليج العربي يعني أن هذه الطيور لديها قدرة عجيبة للتكيف على الأجواء الحارة. بالإضافة لذلك فإن من الطيور البحرية ما هو متوطن (Endemic) للبحر الأحمر ولا توجد أو تتناسل إلا في البحر الأحمر، وأخرى لا تتناسل إلا في الخليج العربي، فمثلاً النورس أبيض العين لا يتواجد ولا يتناسل إلا في البحر الأحمر وخليج عدن فقط،وهناك الغاق السقطري والذي لا يوجد ولا يتناسل إلا في الخليج العربي وبحر العرب.
ليس هذا وحسب فالخليج العربي والبحر الأحمر يتناسل بهما سلالات (تحت نوع) تعتبر متوطنة للمنطقة منها سلالة الطائر الإستوائي أحمر المنقار وسلالة الأطيش البني، واللذان لا يتناسلان إلا في هذه المنطقة، بالإضافة إلى ذلك فهناك أيضاً سلالات تعتبر متوطنة لمنطقة أكبر تمثل منطقة شمال غرب المحيط الهندي والتي تشكل منطقة البحر الأحمر وخليجنا العربي وخليج عدن الجزء الأكبر لهذه المنطقة، مثال ذلك النورس الأسحم والخرشنة المتوجة الكبيرة، ولا يقتصر أهمية البحر الأحمر والخليج العربي للطيور البحرية على هذا فحسب ولكن هناك أنواع بالرغم من انتشارها في مناطق أخرى من العالم إلا أن أعدادها بالمنطقة عالٍ جداً مقارنة بالمناطق الأخرى مثال ذلك الخرشنة بيضاء الخد والخرشنة المتوجة الصغيرة، وعليه فقد وضعت منظمة البيرد لايف إنترناشونال جزر بالبحر الأحمر والخليج العربي ضمن المناطق المهمة للطيور على مستوى العالم، كما تعتبر المنطقة الساحلية للبحر الأحمر والخليج العربي وشواطئ الجزر التابعة لهما مهمة للطيور المهاجرة من المناطق الشمالية في فصل الخريف، والتي تمر عبر المنطقة خلال هجرتها جنوباً، وتشير دراسة للطيور الخواضة أنها خلال هجرتها ترتاد منطقة المسطحات الطينية لتقضي فيها الشتاء خاصة بالخليج العربي، حيث تصل عدد الأنواع التي تزورها بالخريف والشتاء إلى أكثر من 160 نوعا ًمن الطيور المائية ويصل عددها إلى مليوني طائر سنوياً.
من أين تأتي الطيور البحرية المتناسلة بالخليج العربي والبحر الأحمر؟
بالرغم من قلة الدراسات المتخصصة التي تقدم معلومات عن هجرة الطيور البحرية بالمنطقة، إلا أن هناك جهوداً متفرقة على المستوى المؤسسي لقطاع البيئة بدول الخليج العربي، مثل جهود هيئة البيئة بأبوظبي بالإمارات العربية المتحدة، ومنها جهود فردية مقدمة من مهتمين، ومن أهمهم من وجهة نظري أخي العقيد طيار عبدالله بن أحمد الكعبي من سلاح الجو الملكي البحريني، والذي يعتبر الوحيد من أبناء دول مجلس التعاون الحاصل على شهادات متخصصة بتحجيل الطيور (وضع حلقات معدنية على أرجل الطيور)، وقد سعدت بالعمل معه في إعداد وتطبيق برنامج تدريبي لتحجيل الطيور في جنوب غرب المملكة، تحت رعاية الهيئة السعودية للحياة الفطرية، وتعلمت منه الكثير عن الطيور وتحجيلها.
ولعبدالله قصة تحكى عن هجرة الطيور، فقد شدته هواية مشاهدة الطيور، وبدأ يغذي عشقه لها بتعلم التحجيل خلال فترة دراسته بالمملكة المتحدة عام 2006م، محاولاً من وراء ذلك أن يجيب عن أسئله تدور في راسه عن هذه الطيور المهاجرة التي يشاهدها بالبحرين كل عام ليعرف من أين أتت، وقد قام منذ عشر سنوات بتحجيل أكثر من 17.000 طائراً لحوالي 175 نوعاً من الطيور، كان للطيور البحرية النصيب الأكبر، حيث وصل عدد الطيور البحرية التي قام بتحجيلها حوالي 7.700 طائر، ومن أهم نتائج دراسته من خلال تحجيل الطيور أن طيور الخرشنة المتوجة الصغيرة تهاجر لتقضي الشتاء في الهند وسيريلانكا وجزر المالديف كما أن بعضها وصل إلى جزر بإندونيسيا، والتي تبعد حوالي 6,000 كم. وأجمل ما سجل خلال تحجيله للطيور البحرية أنه سجل هجرة لخرشنة بحر قزوين حجلت في كازاخستان سنة 1999م وأمسكها في مملكة البحرين عام 2017م، وهذا يعني أن عمرها حوالي 18عاماً.
أما عن الجهود السعودية لتحجيل الطيور البحرية، فبالرغم أنها كانت من أوائل الدول بالمنطقة التي بدأت بالتحجيل للطيور البحرية عام 1990م، إلا أنها توقفت عام 1997م، وربما يرجع ذلك لخروج أشهر محجلي الطيور السعوديين وخبير الطيور عبدالله حسن السحيباني من الهيئة السعودية للحياة الفطرية بذلك الوقت.
ومن نتائج التحجيل في تلك السنوات فقد سجلت طيور الخرشنة المتوجة الصغيرة المحجلة بجزر جانا وكاران في السواحل الشرقية للهند، أما أبعد تسجيل للطيور البحرية كان للخرشنة المقنعة والتي سجلت بجزيرة بالي بإندونيسيا، فقد حجلت وهي صغيرة قبل طيرانها عام 1994م، وعثر عليها في يناير من عام 2009م، وهذا يعني أن عمرها عندما وجدت نافقة كان حوالي 15 سنة. ومن الطيور الأخرى التي حجلت بالمملكة طيور الغاق السقطري والتي سجلت في سواحل الهند الجنوبية. وعليه ومن هذه الدراسات يتضح أن الطيور البحرية المتناسلة بالمملكة منها من يهاجر ليقضي الشتاء بدول جنوب غرب آسيا، ومنها من يأتي من الشمال ليقضي الشتاء بالمملكة.
سلوكيات الطيور
البحرية المتناسلة
للطيور البحرية في بحر الوطن سلوكيات جميلة تنم على التكيف لمواجهة درجات الحرارة العالية التي تتصف بها بلادنا خلال هذا الوقت من العام، حيث تبدأ طيور الخرشنة من نفس النوع حال وصولها بالتجمع في هذا الوقت من العام بأعداد كبيرة جداً في مناطق محددة إما في مناطق على السواحل أو بشواطئ الجزر القريبة من المناطق التي سوف تضع بيضها عليها بالخليج العربي، أما طيور الخرشنة التي تتناسل في البحر الأحمر فتصل مع نهاية شهر مايو وبداية شهر يونيو، أي أن هناك اختلافا بين بدء التناسل في الخليج العربي عنها بالبحر الأحمر.
تبدأ الطيور البحرية بالتجمع في مناطق محدده على السواحل وشواطئ الجزر في منظر مهيب عند وصولها وكأنها تتحمد لبعضها بالسلامة، وما هي إلا لحظات حتى تبدأ الرقصات وتتعالى الأصوات وكأنها زغاريد الأفراح في عرس جماعي، ففيها فرحة اللقاء للأزواج وفيها تقوم الإناث الحديثة العهد باختيار شريك حياتها والذي ستقابله سنوياً في هذا المكان للتناسل، فتقوم الذكور فيها بتقديم الهدايا والقرابين للإناث، ويستمر هذا العرس الجماعي على هذا الحال لمدة يومين تقريباً حتى يكتمل الوفاق بين الزوجين لتذهب لتأتي أخرى حتى يكتمل اللقاء والتوافق بين الأزواج لتنتقل بعدها إلى الجزر لتضع الإناث البيض. ومعظم الطيور البحرية التي تتناسل في هذا الوقت تقوم بالتجمع في مستعمرات منها الصغيرة ومنها الكبيرة لتعد أماكن الأعشاش التي ستضع الأناث البيض بها، فنجد طيور الخرشنة بيضاء الخد تختار منطقة العش تبعد بين النصف متر إلى أربع أمتار، أما الخرشنة المتوجة الصغيرة والكبيرة فهي تتجمع في مستعمرات متقاربة مكتظة حيث يصل عدد الأعشاش في المتر المربع بالمستعمرة بين 7-13 عشاً، ليصل عددها باللآلاف.
ولكل نوع طريقة في إختيار موقع العش فمنها من يضع أعشاشه تحت الصخور والشجيرات مثل الخرشنه المقنعة، ومنها المكشوف تحت أشعة الشمس مباشرة، وكلاهما يقوم بسلوكيات جميلة تساعده على تخفيف درجات الحرارة، فنجد طيور الخرشنة البيضاء الخد تقوم بتغطيس بطونها وأرجلها بالماء لتحمل بعضاً منه في ريشها لتنقله إلى العش لتبريد البيض وأرضية العش، وتقوم بذلك بشكل منتظم خاصة في فترة الظهيرة والتي تشتد فيها درجات الحرارة. كما يتناوب الذكر والأنثي في حضانة ورعاية الصغار، ولا يتركا البيضة أو الفرخ الحديث الفقس بدون ظل أبداً خاصة خلال فترة الظهيرة.
ما هي إلا أيام بعد الفقس حتى تبدأ الصغار بالتجمع مع عدد بسيط من البالغين وكأنها إحدى رياض الأطفال مع مدرسيهم يختارون موقعاً بالقرب من الساحل، ويتناوب البالغون للبقاء مع الصغار فمجموعات تذهب لجلب الغذاء وأخرى تبقى مع الصغار، وتبدأ الفوضى بين الصغار حال وصول أحد أبويها لتحصل على وجبتها التي تزيد مع كبر حجمها، وما أن يكتمل ريشهما حتى تبدأ بالخروج للماء لتبدد الخوف عنها، ولتبدأ رحلة أخرى حيث تنتقل مع أبويها إلى مناطق تعرف بمنطقة الحضانة للصغار لتتعلم كيف تحصل على غذائها، وهذه المرحلة هي من أصعب المراحل في حياة هذه الطيور، لو نجحت فيها سوف تبدأ معها هجرتها في البحار لتكمل ما قام به أبواها، وما كتب الله لها لتعود في نفس الموعد بعد أن تصل لسن بلوغها لنفس المكان الذي فقست به. والجدير بالذكر أن الطيور البحرية يعرف عنها أن الأزواج تعود لنفس الموقع للعش، بل أن بعضها يعود إلى نفس موقع العش تحت الشجرة أو الصخرة من كل عام للتناسل.
ويشير العلماء أن تناسل الطيور البحرية في مستعمرات وتجمعها بأعداد كبيرة على الشاطئ لتنظيف ريشها لها أهمية كبيرة للنظام البيئي البحري، ويرجع ذلك إلى أن الطيور بالمستعمرات المكتظة تتجمع على الساحل لتنظيف ريشها الممتلئ بالمخلفات العضوية الناتجة من مخلفات الغذاء أو البراز وهذه تعتبر مواد عضوية، وهي تعتبر سماد للأحياء العالقة في مياه البحر والتي تسمي البلانكتون، وهذه الكائنات هي أيضا غذاء مهم لكثير من الكائنات البحرية كالمرجان وبعض الأسماك، إضافة إلى أن هذه الكائنات تقوم بعملية البناء الضوئي والتي ينتج منها غاز الأكسجين ليس لتنفس الكائنات البحرية الأخرى فقط، ولكن أيضاً للكثير من الكائنات على اليابسة ومنها الإنسان.
المخاطر التي تواجه الطيور البحرية المتناسلة بالمملكة
ذكرت عدد من الدراسات أهم المخاطر التي تواجه الطيور البحرية المتناسلة بالمملكة من أهمها الإزعاج وقت التناسل، وجمع البيض، وإدخال عدد من المفترسات للجزر، والتلوث على السواحل والجزر. ولشرح ذلك فإن إزعاج الطيور في وقت تحضين البيض يجبرها على ترك العش، مما يجعل البيض معرضاً للافتراس أو لأشعة الشمس الحارة والتي يمكن أن تقضي على الجنين داخل البيضة، وحتى عندما تكون الصغار في مرحلة يمكنها التحرك فهي سوف تبتعد عن موقع العش مما يجعلها عرضة للافتراس أو المهاجمة من طيور أخرى، و أحياناً تترك الطيور البالغة العش و لا تعود إليه أو تغير منطقة تعششها لمناطق أخرى يقل فيها الإزعاج. أما جمع البيض فبالرغم من محدوديته في بعض المواقع خاصة بالجزر جنوب البحر الأحمر وإرتباطه بتقاليد قديمة وحاجة السكان المحليين لتوفير مصدر آخر للبروتين لقاطني الجزر، ولكن زيادة هذه العادة وتطور أساليب التنقل بين الجزر ودخول عمالة تلتقط كل شيء يمكن أن يجلب مالاً لبيعه، أثر بشكل كبير على الطيور البحرية. أما فيما يتعلق بالتلوث فإنه كما يعلم الجميع يحدث أضرارا بالغة في البيئات البحرية خاصة في البحار الصغيرة والمحصورة كالبحر الأحمر والخليج العربي.
ومن أهم الملوثات التي يمكن أن تؤثر على الطيور البحرية: التلوث البترولي ومياة الصرف الصحي ومخلفات المصانع، ويؤثر البترول على الطيور البحرية سواء البالغة أو الصغيرة وحتى البيض، فهو يلتصق بريشها مما يجعل حركتها صعبة فتغرق أو تتسمم نتيجة تنظيف ريشها حيث تبتلع البترول اللاصق بالريش، كما أن البترول الذي يصل إلى الجزر التي تتناسل عليها الطيور البحرية يُكَوْن طبقة سطحية على الشاطئ، كثيراً ما تذوب من الحرارة العالية في فصل الصيف مما يجعلها مصيدة للطيور البالغة والصغيرة ، كما يمكن أن تتأثر الطيور الحاضنة للبيض فتأثر على البيضة نفسها حيث تنسد المسامات التي على القشرة مما يؤدي إلى منع دخول الهواء داخلها وبالتالي يؤدي إلى موت الجنين داخل البيضة.
أما مياة الصرف الصحي فهي تأثر بشكل كبير على الأسماك والقشريات والتي تعتبر الغذاء الرئيسي للطيور البحرية، كما أن زيادة تراكيز هذه المياه قد يؤدي إلى زيادة المواد العضوية بالمنطقة وهذا يزيد من إنتشار الطحالب والتي تؤدي إلى قلة الإضاءة التي تصل إلى المرجان أو الحشائش البحرية والتي تعتمد عليها الأسماك والقشريات، مما يؤدي إلى اختفائها و هذا بالطبع يؤثر على الطيور البحرية بالمنطقة.
ومن المهددات الأخرى والتي تؤثر على الطيور البحرية هو إدخال أنواع حيوانية مفترسة لمناطق التناسل، ومن أهم هذه الأنواع القطط والكلاب والفئران من الثدييات والغراب الهندي المنزلي من الطيور، و هذه الأنواع تتغذي على فراخ وبيض الطيور البحرية على الجزر، وقد لعب الإنسان في نقل هذه الحيوانات للجزر وقد جلبت القطط للقضاء على الفئران على الجزر والتي وصلت هي أيضا بواسطة قوارب الصيادين كذلك الكلاب للحراسة.
وهنا يتبادر في خاطري سؤال مهم ..هل يمكن أن تكون هناك سياحة لمشاهدة الطيور البحرية على الجزر في ظل رؤية 2030م؟
من خلال خبرتي المتواضعة أنه يمكن ذلك، لأن لدينا أنواعا لا يمكن مشاهدتها إلا في منطقتنا وهذا بحد ذاته مقوم للسياحة البيئية، لكن هذا النوع من السياحة يحتاج لتنظيم ومتابعة دقيقة وبرامج توعوية للصيادين والسياح لتفادي التأثير السلبي على الطيور البحرية خلال فترة التناسل، ويمكن ذلك باقتصار مواقع التوقف والمراقبة في مواقع محددة من الجزيرة وبناء أبراج مراقبة على أطراف الجزيرة المختارة لهذه السياحة، كما أن هناك طيورا يمكن أن تشاهد طوال العام فالغاق السقطري بالخليج العربي في فترة الشتاء وبداية الربيع، والطيور البحرية في نهاية الربيع والصيف، والطيور المهاجرة على الشواطئ في الخريف. وفي الختام أود القول أن الطيور البحرية تقدم درساً في حب الوطن فهي تعود لمواقع تناسلها سنوياً في عشق اللقاء بالأقران والأحباب وشوق للمكان فهي تعود لنفس العش في كل عام، كما أنها جزء من تراث وطننا الفطري يجب أن نحافظ عليه، واحد أركان النظام البيئي البحري الذي يجب المحافظة عليه لاستدامة العيش للأجيال الحالية والقادمة.
... ... ...
عميد البحث العلمي المكلف بجامعة الطائف - مستشار غير متفرغ بالهيئة السعودية للحياة الفطرية - رئيس اللجنة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط للبيرد لايف إنترناشونال - عضو اللجنة العلمية الاستشارية لمذكرة التفاهم للطيور الجوارح المهاجرة بين أفريقيا وأيوروآسيا.