د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
أما نقادنا القدامى فقد أسهموا -في مواضع شتى من كتبهم ودون تعمق- في تعريف الأسلوب وطرحوا عدة مفاهيم له، وارتبطت عندهم هذه القضية بقضايا أخرى كاللفظ والمعنى أو الشكل والمضمون أو النظم، لارتباط الأسلوب في أذهانهم بالجانب اللغوي ومسألة الصياغة على نحو ما كان لدى بلغاء اليونان.
فحين تبحث في مؤلفات علماء الإعجاز تجد الأسلوب حاضراً لديهم بشكل أو بآخر، مما يوحي بوعيهم بعناصره المكونة، وهو يعني عندهم طريقة اختيار الألفاظ والعبارات الملائمة للتعبير عن المعاني العقلية وتجسيد الأفكار ونقل الصور الذهنية والأحاسيس التي تتأثر بها النفس، مع التأكيد على أهمية الجانب الدلالي والصياغة اللفظية، بل يجعلون هذا الجانب المقياس الأساس في الحكم على الأسلوب. وعندما نقترب من تفاصيل كلام هؤلاء العلماء نجد ابن قتيبة يشير إلى ارتباط الأسلوب بالهدف أو الموقف الشخصي، أما الباقلاني فيربط بين الأسلوب وشخصية المنشئ، ويشير إلى تمايز الأساليب واختلافها باختلاف الشخصيات، وإمكانية تعيين شخصية المتكلم من خلال أسلوبه، بينما يضيف الرازي إلى هذا أنَّ الصورة الذهنية للأسلوب لها طابعها المتفرد في كل جنس من أجناس الكلام.
وكان للجاحظ قصب السبق في ربط الأسلوب بشخصية صاحبه، حين تحدث عن العلاقة الوثيقة بين الكتاب ومؤلفه، بينما لم يختلف رأي السكاكي عن الباقلاني من جهة تأكيده على الصياغة اللفظية الفنية واعتبارها الواجهة الرئيسة للأسلوب، إذ يرى أنَّ معيار الجودة في الأسلوب هي الخواص التعبيرية ومدى تأثيرها في المتلقي. أما ابن رشيق فبعد أن لخص لنا غالبية هذه الآراء ذكر الأسلوب في معرض حديثه عن النظم الشعري ورأي الجاحظ فيه، ومفهومه عندهما يعني الصياغة اللفظية وما يتصل بها من تلاحم أجزاء العبارات وسهولة مخارج الألفاظ وخفتها وعذوبتها وحسن سبكها وانجذاب الأسماع إليها، وهو مفهوم يمكن أن يمثل آراء كثير من النقاد والبلاغيين في الفترة ما بين زمن الرجلين.
ورغم ما يبدو من احتفالهما بالجانب الشكلي من الكلام، إلا أن هناك ما يظهر عنايتهما بالمعنى، وعدم التفريق بينه وبين اللفظ في القيمة والاعتبار، ومع ما أصاب معالجتهما لهذه القضية من اضطراب وغموض، إلا أن ما يمكن استخلاصه منهما هو أنَّ الأسلوب في مفهومه الحقيقي لديهما لا يمكن أن يكون هو العبارة وحدها، وإنما هو العبارة مرتبطة بالفكرة أو المعنى؛ لأنه لا انفصال بين الاثنين.
ويأتي عبدالقاهر الجرجاني ليبلور هذه الفكرة بشكل أوضح، حيث يربط مفهوم الأسلوب بنظرية النظم التي عُرف بها، وتميز بتحليله ومناقشته لها، فالأسلوب عنده هو الضرب من النظم والطريقة فيه، والنظم في مفهومه ليس تركيب الألفاظ أو نظمها، وإنما هو نظم المعاني وتصويرها قبل كل شيء، وما الألفاظ سوى مجسدة لها، فالأسلوب في نظره معان أو أفكار نظم أو تصوير ذهني لهذه الأفكار، بل يمكن القول إنَّ الأسلوب عنده نظم أو تأليف أو تصوير المعاني في الذهن، ثم استغلال الإمكانات اللغوية والنحوية للتعبير عنها أو تجسيدها، كما أشار عبدالقاهر إلى ارتباط الأسلوب بالحالة النفسية للمنشئ بطريقةٍ لم يُسبق إليها.
كما كان لحازم القرطاجني وابن خلدون جهود في هذه القضية، فقد أشار الأول إلى طريقة تأليف الكلام ككلٍّ لا يتجزأ، بما فيه التأليفات المعنوية، أما الثاني فقد كان أكثر إدراكاً وفهماً ودقةً لمعنى الأسلوب والتعبير عنه، ومن يتأمل فيما قاله في هذا الشأن يلحظ أنَّ الأسلوب في نظره يتألف من صورٍ وأفكارٍ ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها، ومن تصميمٍ وسبكٍ لهذه الصور والأفكار في الخيال والذهن، ومن انتقاءٍ للعبارات والتراكيب اللفظية المناسبة للصور أو الهيئات العقلية المجردة، ومن سبكٍ لهذه العبارات وصياغة لها بشكل يتناسب مع الصورة الموجودة في الذهن.