ياسر صالح البهيجان
منهجيّة المتن والهامش التي تُعد ركيزة أساسيّة في أي بحث علمي جاد، لم تقف عن حدود الإنتاج البحثي، وإنما تسللت إلى المجتمع لتنتج تقسيمات تُعلي من شأن المتون وتزدري الهوامش رغم أن مصداقيّة أي نص لا تُكتسب إلا عبر الإحالة لهامش توثيقي يؤكد صحة الإسناد ويمنحه شرعيّة الوجود.
الهامش رغم أنه قابع أسفل أي منجز بحثي، إلا أنه أشبه بالقاعدة المتينة التي تؤسس لما فوقها، لكن الوجود في الأسفل يحمل دلالات سلبيّة تجتر مفاهيم الازدراء والدونيّة، وهي التي أنتجت أيضًا التقليل من شأن الطبقات الكادحة، والوظائف ذات المرتبات المتدنية، وأصحاب البشرة الملّونة، والاختلاف المذهبي والعرقي والعقدي، وغيرها من حالات التنوع والتعدد التي تمثّل عصب أي تجمع إنساني، وتعطيه طاقة جبارة للعمل والإنتاج والتنافس الشريف بما يخدم مصالح الأوطان.
والسؤال الجوهري: «هل كان بإمكان المتن أن يوجد لو لم يوجد الهامش؟»، وبنظرة أشمل هل كان السيّد سيصبح سيدًا لو لم يجد من يقبل بأن يكون خادمًا له؟، وهل الطبقة الغنية كانت ستكتسب ثراء فاحشًا لولا الطبقة العاملة؟ وهل كان الإنسان الأبيض سيعرف بأنه أبيض لو لم يرَ الملونين؟، تساؤلات منطقية من شأنها أن تعيد للهامش مركزيته، وأن تمنحه حق الاستمتاع بمميزات المتن حتى وإن ظل في الأسفل، أسئلة تتجه إلى فضاء التعددية البشرية الخلاقة والإنسانية، لكي يستعيد الإنسان جوهر وجوده وكينونته دون أي ازدراء، ولتتهيأ له سبل العيش السويّة التي تمثّل حقًا مسلمًا به لأي كائن بشري مهما كانت صفاته.
النظريات النقدية المابعد حداثيّة اتجهت بقوّة لتحطيم صنم المتن الذي ظل ردحًا من الزمن يهيمن على منظومة الفكر الإنساني، وكان ذلك الصنم مبررًا للاستعلاء والاستعباد والاستعمار والتنمر الثقافي. وأحدث الحراك النقدي هزّة في المفاهيم والأيديولوجيات وراح يسلط الضوء على الهامش لاستنطاقه وجعله متحدثًا وحيدًا ليعبّر عن مكبوتاته وآلامه وآماله، وكان ذاك إيذانًا لمرحلة جديدة غيّرت القيم البشرية، وأفرزت حالة ديمقراطية غير مسبوقة، وإن كانت بعض السمات الرجعية لا تزال حاضرة على استحياء في بعض المناسبات.
ومن أوائل المفكرين الذين أسهموا في الانتصار للهامش المنظر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» وراح يقارب فيه بين العلاقة الغربية والعربية، ومفاهيم الاستعلاء والنزعة الاستعمارية بحجة نشر الديمقراطية بالقوة، وأحدث مؤلَفه ثورة معرفية لدى الغربيين، وكان قد تأثر بالفيلسوف الفرنسي جاك دريدا مؤسس استراتيجية التفكيك الذي سخّر جهده لنقد الأيديولوجية المؤسسة لرؤية الغرب لذاته وللآخر انطلاقًا من إعادة قراءته للموروث واستكشاف مضمراته النسقية.
والحقيقة أن رياح التجديد المفاهيمي فيما يتصل بالمتن والهامش حرّكت نوافذ المجتمعات العربيّة، لكنها لا تزال غير متمكنّة بما يكفي لإحداث تغييرات جذريّة في المفاهيم الفكريّة السائدة، كما أن الحقول المعرفيّة التي تُعنى بطرح قضايا المهمشين اجتماعيا لم تُفعّل في المؤسسات التعليمية والثقافية في ظل غياب المراكز البحثيّة الجريئة والمتخصصة التي تواكب مستجدات الفكر الإنساني، وتعمل على تحسين مستوى الوعي المجتمعي، وتحد من سلوكيّات تصنيف أفراد المجتمع.