د. عبدالحق عزوزي
كتبت منذ أسبوعين في صحيفة الجزيرة الغراء: «المهم إذن، أن الناخبين الفرنسيين سينتخبون غدا الأحد رئيسهم... ولأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة، لم يصل لا اليسار ولا اليمين إلى الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية التي عرفت تتبعًا إعلاميًا دوليًا قل نظيره... فوصل حزب الوسط الجديد برئاسة شاب ذكي اسمه ماكرون، كان يعمل مستشارًا للرئيس هولاند في قصر الإليزي قبل أن يعينه وزيرًا للمالية، وقبل أن ينقلب بحرفية وذكاء على الدولة العميقة الفرنسية... ثم وهو ما كان منتظرًا وصل الحرب اليميني المتطرف بزعامة السيدة لوبين، وهي تتغذى انتخابيًا على حساب الهجومات الشرسة التي تقوم بها على المسلمين وقناعاتها المتطرفة بإغلاق الحدود مع أوروبا ومنع توافد المهاجرين بكل أصنافهم... وصل هذان التوجهان إلى الدورة الثانية، وأنا على يقين بالمناسبة، أن السيد ماكرون هو الذي سيجلس على عرش الإليزي، ولم يصل لا اليمين ولا اليسار إلى الحكم لأن الشعب الفرنسي لم يعد يثق فيهم ولا في أفكارهم ولا في أيديولوجيتهم، وأحدث زلزالاً في تاريخ الجمهورية الخامسة وفي مصير الدولة الوطنية».
كما تنبأنا بذلك وكتبناه إذن، وصل السيد ماكرون إلى عرش الإليزي، وهو شاب يحمل مشاكل وانتظارات الملايين من الفرنسيين الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم ولم يعودوا يثقون في النخب السياسية الفرنسية التقليدية التي طبعت الحياة السياسية منذ عقود. إيمانويل ماكرون، هو الآن أصغر رئيس منتخب لفرنسا منذ لويس نابليون بونابرت الذي صار في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1848، أول رئيس منتخب للجمهورية الفرنسية في سن ناهز الأربعين عاما وثمانية أشهر.
يمثل ماكرون الذي يقدم نفسه بأنه «لا من اليمين ولا من اليسار»، نموذج الطبقة الفرنسية المثقفة، وفي ظرف ثلاثة أعوام تمكن الرئيس الجديد المنتخب إيمانويل ماكرون من الانتقال من مستشار للرئيس فرانسوا هولاند ليصبح ثامن رئيس للجمهورية الخامسة، وأصغر رئيس في تاريخ الجمهورية الفرنسية (39 عاما). قبل ثلاثة أعوام فقط لم يكن الفرنسيون يعرفون إيمانويل ماكرون الذي أسس حركته «إلى الأمام» لخوض أولى حملاته الانتخابية حيث قدم نفسه كمرشح «الوطنيين ضد القوميين»، ليزيح مرشحي الأحزاب التقليدية في فرنسا، ويصبح رئيس فرنسا الجديد خلفا للاشتراكي فرانسوا هولاند.
كنت ألتقي مراراً في فرنسا بالعديد من المفكرين الفرنسيين الذين كانوا يحيطون بالرئيس ماكرون ويشاركونه إستراتيجيته ويبلورون معه بعض الاقتراحات الجريئة، ومن هاته البطانة رجال إستراتيجيين أعرفهم بكتاباتهم، والبعض الآخر اشتغلت معهم في العديد من الأنشطة الفكرية والأكاديمية، ولكن لا أحد في نظري كان يتصور أنه يوم الانتخابات الرئيسية سيزيح ماكرون في رمشة عين اليمين واليسار وسيبقى في الدورة الثانية لوحده يواجه اليمين المتطرف بسهولة. لا أحد. المهم من هاته العملية السياسية الطويلة والفريدة من نوعها، أن اليمين المتطرف لم يصل، والمهم أيضًا أن الموجة اليمينية المتطرفة والقومية التي بدأت تجتاح بعض الدول الديمقراطية التقليدية، لم تصب فرنسا، لأنها لو أصابت فرنسا، لتغيرت أوروبا عن بكرة أبيها، ولتوقف الاتحاد الأوروبي، ولشهدنا صراعات داخلية لا يمكن أن تخمد، ولأثرت على اقتصاديات العديد من الدول الأوروبية والدول المتوسطية والعربية على السواء، ولأصابت العدوى جل الدول المجاورة التي ستدخل في سياسات حمائية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا... كما أن الملايين من المهاجرين العرب والأفارقة الذين يعدون بالنسبة للعديد من دولهم الأصليين المورد المالي الأول لها، سيجدون أنفسهم بين سندان السياسات الأمنية الجديدة، ومطرقة الكراهية الرسمية للدولة لهم.
العالم الغربي يتغير؛ فرنسا نجت بأعجوبة من الذي أصاب الولايات المتحدة الأمريكية عندما وصل الرئيس ترامب إلى كرسي البيت الأبيض.. ولكن في الطريق أزيح اليمين واليسار من الانتخابات الرئاسية في دورتها الثانية، وهذا له أكثر من مائة مدلول في سوسيولوجية العلوم السياسية فيما يتعلق بالمجال السياسي العام، وإيديولوجية الأحزاب التقليدية، والعمل السياسي، ومسألة الثقة بين الحاكم التقليدي والمحكوم، والسياسات العمومية، وهلم جرا. هذا الزلزال السياسي العام، ستشتغل عليه العديد من التوجهات السياسية الجديدة التي ستخلق في الدول الغربية، وستقوي في نفس الوقت التوجهات اليمينية المتطرفة التي دائما ما تتغذى على أسباب ومسببات لا أظن أنها ستفنى، بل ستبقى لعقود متواجدة وبكثرة.