منذ زمن طويل ونحن نكتب ونطالب من يهمه الأمر بأن يكون هناك تأهيل جيد لخطباء الجوامع وتوجيههم إلى الاهتمام بمادة الخطبة والتحضير اللائق بها لتلبي رغبة المصلين في خطبة جامعة نافعة.. وموضوع الخطبة بصفة عامة لم يكن الحديث أو التطرق إليه وليد اليوم أو البارحة بل منذ سنوات وسنوات، ولكن نظراً للحساسية المفرطة والاتهامات المتسرعة الجاهزة التي يجابهها عادة كل من يتعرض لتقويمها كانت في الماضي تحد من عزيمة البعض أو تجعله مترددا وحذرا وفي أكثر الأحيان لا تجد صدى أو تجاوباً من المسؤولين أذكر على سبيل المثال أنني كتبت سلسلة مقالات تحت عنوان: خطبة الجمعة إنارة لا إثارة، منذ حوالي عشرين عاماً قلت فيها ما معناه أن الكثير من الخطب تجلب الملل والنعاس للرتابة والضعف في المادة وطريقة الأداء وبعضها يطفح بالمبالغة الشديدة وتنفخ في مواضيع يندر حدوثها في مجتمعنا ويعرضون تفاصيلها وفق هواهم وكأنها ظاهرة عامة وليست شاذة ونادرة، وهناك خطباء لا هم لهم إلا التشهير بطريقة أو بأخرى بمن يخالفهم الرأي، وقد أشرت في مقالاتي الآنفة الذكر إلى أكثر من عشرين آفة اجتماعية تنخر في جسد المجتمع وفي حياتنا العامة لا يتطرق إليها الخطباء إلا على عجل أو في فترات متباعدة وهي تفوق في خطورتها أضعاف تلك المسائل الصغيرة الهامشية والتي يهتمون بها والتي تصب في غالبها في مجال الإثارة والشوشرة حيث يصب بعضهم جام غضبه على ما تنشره بعض الصحف من آراء لبعض ا لكتاب إذا ما كانت لا تتفق مع ميولهم وتوجهاتهم الخاصة معتبرين في قرارة أنفسهم منابر الجمعة ملكاً خاصاً لهم ونافذة مفتوحة لهم وحدهم وأنهم معصومون من المساءلة وأن المستمعين لهم سيأخذون كلامهم على محمل القبول والتأييد.. ومن هنا نعود إلى موضوعنا ومداخلتنا حول الخطبة وتعديل وتحسين مسارها لتحقق الهدف المنشود منها.
لقد لاحظنا ببالغ الأسف منها أن بعض الخطباء يتطرقون إلى موضوعات مكررة لا يستفيد منها الناس، وبعضهم يتعرض لموضوعات وكأنها نشرة أخبار سياسية فقد عشنا ردحاً من الزمن لا نجد في بعض هذه الخطب إلا سرد المبالغات ومسلسل التهويل والإثارة وكيل الشتائم جزافاً شرقاً وغرباً على أصحاب الديانات والملل الأخرى غير مبالين بمن يعيشون منهم ويعملون بين ظهرانينا وتعدادهم بالملايين، نعم يعملون في بيوتنا ومزارعنا ومطاعمنا ومستشفياتنا وبنوكنا ومصانعنا ومحلاتنا التجارية وكل شبر في أرضنا لم تستثن أحداً معاهداً أو غير معاهد ذمياً أو غير ذمي يتساوى المسالم وغير المسالم من جاء بعقد أو بغير عقد مما أكسبنا في النهاية الأعداء من كل جانب والمضايقات في كل مكان في العالم بسبب الكلام المتواصل المنفلت اللا مسؤول.
والحصيلة بالتالي هو الشوشرة على عقول وتوجهات ناشئتنا الأغرار فغرسنا حب الانتقام والتشدد والحقد في نفوسهم وسلوكهم تجاه الغير الأمر الذي جعل فئة لا يستهان بها منهم مطية أو لقمة سائغة وأداة مطواعة لأصحاب بعض التوجهات المتشددة لأهداف شتى الله أعلم بحصادها ونهايتها. ولمزيد الإيضاح نقول هنا ماذا استفدنا من صب اللعنات جزافاً بدون تمييز وزرع العداوات وكيل الاتهامات بلا حدود وكيف والحالة هذه نستلطف قلوب أصحاب الديانات الأخرى من حولنا ونشرح لهم محاسن الإسلام - دين الرحمة والشفقة والهداية والعدالة والإنسانية والحكمة والموعظة الحسنة ونحن لا نكف نسمع بين وقت وآخر بعض الخطب والأشرطة أو نقرأ في الكتيبات المتناثرة في كل مكان وهي تكيل وتصب الشتائم بأقذع الألفاظ لهم ولدياناتهم التي نشأوا عليها ولا تجد ما تخاطبهم وتناديهم وتصفهم به أحياناً إلا عبارات - أحفاد القردة والخنازير وأن نستعجل اليوم الذي يجعل نساءهم سبايا للمسلمين. متجاهلين قول الباري عز وجل في محكم تنزيله حيث قال وهو أصدق القائلين: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (108) سورة الأنعام.
ولاختلاط الحابل بالنابل وطغيان مفردات الشتم والسب ونبرات الغضب والحشرجة أصبحنا في فترة ما نشد الرحال من بيوتنا وفي وقت مبكر كل جمعة للبحث عن الخطباء الحكماء العقلاء المتميزين ممن يزنون خطبهم بميزان الحكمة والروية والتبصر ويقدرون العواقب ولا يلقون الكلام على عواهنه إرضاء للعواطف أو تهييج العامة والبسطاء. نعم هناك خطباء يحرصون على أن تكون مواضيع خطبهم واضحة المعالم حافلة بالنصح والتوعية الهادفة بأسلوب مختصر مفيد وبطرح موضوعي يلامس شغاف القلوب ويقوي الإيمان بدون مبالغات ولا إثارة وبعيداً عن اليأس والقنوط والغلظة والتشاؤم والتهور والتنطع والتنفير، تخاطب الناس بالأسلوب الهادف البناء بدون سأم ولا ملل ولا تكرار تأخذ باعتبارها أن خير الكلام ما قل ودل، وأن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً، خاصة وأن هناك المرضى وكبار السن والأطفال والكثير منهم يحضر للمسجد في وقت مبكر.. ولقد رأينا بأم أعيننا بعض الخطباء يسترسل في خطبة ارتجالية عائمة غير مترابطة ولا يكف عن الخطابة حتى وهو يجد أبواب المسجد محشورة بالواقفين فضلاً عن المنتظرين خارج المسجد في لهيب الشمس الحارقة. بقي في النهاية أن نضيف إلى ما ذكرناه سلفاً بعض الاقتراحات:
1- يلاحظ أن كثيراً من الخطباء غير متفرغين لوظيفة الإمامة فلديهم وظائف وأعمال أخرى ومن هذا المنطلق فهم لا يعطون الخطبة الاهتمام اللائق بها.
2- هناك بعض الأئمة غير مؤهلين للخطابة ولا يثرون ثقافتهم بالاطلاع وحسن الاختيار للمواضيع الحيوية اللائقة ولا يستعينون به هو أكفأ منهم. يجعلنا ونرفع شعار البقاء للأصلح.
3- يجب الاستعانة بطبع خطب أئمة الحرمين الشريفين والخطب المشهورة عن كبار الخطباء المشهود لهم بالباع الطويل والكفاءة وتوزيعها على أئمة المساجد.
4- يجب أن تكون الخطبة مكتوبة وذات زمن محدد رأفة ورحمة بالمصلين الذين يعانون من أصحاب الإطالة وما أكثرهم.
والله الهادي..