ميسون أبو بكر
كنت أنظر من الأريكة القريبة من المكتبة المحملة بعشرات الكتب أمامي، وعلى ضوء خفيف تسلل من النافذة المطلة على الرياض وقد بدت المدينة أكثر رقة وهتان المطر يتساقط على النوافذ فتبدو الرؤية أكثر رقة وعذوبة، لوحت لي عناوين من الكتب تراقصت أحرفها أمامي كما حبات المطر التي تسلقت النافذة ثم سرعان ما تراقصت والأنفاس الملتصقة بها، بابلو نيرودا وقصائد حب مجنونة، عبدالله الجفري ومشاعر فائضة كنهر حزن، باولو كويلو وكنزه الذي جاءت به عبارات الحكمة، آرنست همنغواي وسلاحه الذي ما ودعه، وجبران خليل جبران والفكرة التي بقيت هاجسي؛ أبناؤكم أولاد الحياة، محمود درويش وخبز أمه وقهوة الغريبة، ألف ليلة وليلة وشهريار التي لم تكمل حكايتها بانتظار فجر جديد لا تموت فيه، إبراهيم البليهي وحصون التخلف، وزوربا مزماره ورقصة الصباح وفوضوية الحياة وإيقاعه المجنون، والكثير من العناوين التي تعبر بي أميالا إلى جنون وفكر أصحابها كلها كانت تلوح لي وتفتح شهيتي للقراءة وللإبحار في قوارب ورقية أجدف بأقلام خشبية قد تترك بعض الخربشات على هامش الصفحة، أو خطين تحت جملة ساحرة.
ذهبت لتذكر المرة الأولى التي استسلمت فيها لكتاب، كان أول مشهد استطعت العودة له هو تلك الطفلة التي كنتها أقف بمكتبة المدرسة أنظر إلى الكتب الممتدة حتى السقف وقامتي القصيرة لم تسمح لي بالوصول أكثر من خمسة أرفف، وكانت تجذبني الألوان القرمزية والأغلفة الملونة والرسومات التي تكاد تنطق على الأغلفة.
دخل الموجّهون ذات صباح على صف المكتبة، وتجمعت الطالبات حول الزائرين، يتسابقون لإجابة أسئلتهم، إلا أنا فقد أسرتني قصة الشمس التي تذهب لسريرها حين تغيب حسب مخيلة الكاتب.
الغرب يقرأ ليعيش، ويقرأ لأنه موجود، ولأن القراءة لديه غريزة كالأكل والشرب والنوم، ويقرأ لأن القراءة نهج حياة وأناقة وفكر، وهم لا يتهاونون مع الكاتب الهزيل، وشروط النشر لديهم محكمة صعبة لأن الناشر يحترم فكر القارئ، ولأن فعالياتهم الثقافية ومعارض الكتب هي مهرجانات سنوية وكرنفال مجتمعي تهتم به كافة شرائح المجتمع.
هم يحترمون الأنظمة لأنهم شعب يقرأ، ويقبلون على الحياة بشغف لأن القراءة لذة، ويسافرون عبر الكتاب قبل أن تبتعد بهم المسافات عن الدار، والكتاب في جيوبهم وحقائبهم وسمة لمسافري القطارات والمنتظرين في المحطات والمطارات، وله طقوس خاصة حتى اللحظة الأخيرة قبل النوم، منضدة قرب السرير ونور كافي للقراءة.
الكتاب عالم من الأصدقاء الذين لم ترهم، ورسم لوحات من الحياة من وحي الخيال والتصور، الكتاب جامعة بدون معلم صف يحمل عصا وطباشير وممحاة ويقف عند طرف السبورة.
بعض مكتباتنا لوحات ديكور أو قطع أثاث نكمل به فخامة منازلنا، مكتباتنا مهجورة والكتب بانتظار نفض الغبار عن صفحاتها.
قل لي إنك تقرأ أستطيع أن أقول لك من تكون، وأستطيع أن أستدل على فكرك وسلوكك وتحضرك، وعن كم المارّين بك من الشرق والغرب وشمال الكرة وجنوبها.
القراءة غداء ودواء وسفر عبر القارات، اقرأوا فإن في القراءة حياة يا أولي الألباب.
من آخر البحر لبابلو نيرودا
يموت ببطء
من لا يسافر
من لا يقرأ
من لا يسمع الموسيقى
من لا يجيد الاهتداء بعينيه
يموت ببطء
من يتلف حبه الخالص
من يحجم عن تقديم المساعدة
يموت ببطء
من يستعمل كل يوم نفس الطريق
من لا يجازف بتغيير لون ملابسه
ومن لا يتحدث إلى مجهول
يموت ببطء
من يتجنب الهوى
وزوبعة المشاعر
تلك التي تعيد البريق للعيون
وترمّم الكسير من القلوب
يموت ببطء
من لا يغير وجهته حين يحسّ التعاسة في العمل أو الحب
من لا يركب المخاطر ليحقق الأحلام
من لم يحاول مرة في حياته التمرد على النصائح الرصينة
عِش حياتك الآن
جازف اليوم
تفاد الموت البطيء
لا تحرم نفسك من السعادة