د. محمد بن عويض الفايدي
الحراك المجتمعي له طاقة كامنة تحركه وتدفع به نحو التعايش والسِّلم والاستقرار أو الاختلاف والتشاحن والاقتتال، وفي ظل الأزمات والتهديدات والمخاطر تتسع دوائر المؤثرات على السِّلم المجتمعي الذي يُشكل الرأي العام الواعي عصب تماسكه ومرتكز نجاته، وبمقدار توازن الرأي العام يتحقق الاستقرار أو تسود الفوضى، وتذكي الشائعات والمعلومات المغلوطة والأفكار المدسوسة والإعلام المؤدلج ووسائل الاتصال المجتمعي المندفعة شرارة الاهتزاز في بناءات الرأي العام وتدفع به نحو التصادم والتناحر والانقسام. وتُعد الثورات والغزو من الداخل وإبادة أنظمة فاسدة لشعوبها وظهور المليشيات، أحد المشاهد الحاضرة في منطقة الشرق الأوسط لاختلالات قواعد الرأي العام وتصدع مرتكزاته وانكسار قوى الضبط داخله. وبالتالي شيوع الفوضى والصراعات والحروب والتطرف والإرهاب والهجرة والتهجير القسري. وغالبًا ما تُستغل قضايا التنمية الحرجة في تحريك الرأي العام تحت شعارات المظلومية والتجاوز على الحقوق والمصالح الفردية والجماعية، وقهر فئات اجتماعية اثنية أو عرقية أو مذهبية، والانحياز إلى مناطق وجهات دون أخرى عند توزيع الخدمات، واستغلال بعض الحوادث والأحداث لإثارة الرأي العام الذي يُعد التحدي الأصعب عند الحديث عن برامج التنمية التي تُترجم معطياتها في خطط التنمية التي تُصاغ برامجها في الخطط الخمسية وتُدرج ضمن الميزانية السنوية، ويُبرز النظام الإعلامي ملامحها في البرامج الوثائقية والحوارية وعلى صفحات الصحف والمجلات، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي والبث الشخصي الذي أصبح يسبق وسائل الإعلام الرسمية والفضائية، ويتخطاها بالمبادرة في توجيه الرأي العام إما نحو العقلانية أو باتجاه العاطفية، أو إلى التضاد والحمق والطيش والكوارث والأزمات التي تفرزها هذه الوسائل بشكل مباشر وسريع، لبناء الاتجاهات المؤيدة أو المعارضة للسياسات والقرارات في تجاذب بين مخاطبة منضبطة للرأي العام في تناغم مع ثوابت المجتمع ومحددات نظمه وتكامله المؤسسي، وبين انفلات يضرب الثوابت ويهز المبادئ والقيم ويقوض أركان الاستقرار في المجتمع.
إنّ إدراك سبل الحوار الوعي ومهارات التأثير المباشر وغير المباشر الوثيقة بمبادئ وقيم ومعايير المجتمع، تُعد الضامن الكفء لترسيخ مفاهيم القبول لبرامج التنمية في إطار شامل بين الدولة وأفراد المجتمع، ومع الدول والمجتمعات الأخرى لضمان الاستقرار والسِّلم داخليًا وخارجيًا للمحافظة على السمة الأصيلة للتنمية باعتبارها عملية نهوض حضاري ينسحب على شتى مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والفكرية والعسكرية والصحية والترفيهية والبيئية، ومهارات التخطيط والدعم والمساعدات والإعانات، ومشاركة الآخر في ما يتعرض له من كوارث وأزمات لتحقيق مفهوم التنمية التكاملية.
يتشكّل الرأي العام على سطح لوحة كونية ضخمة حقيقته مرآة نتاج تفاعل مكونات مجتمعه ومؤسساته ونظمه، ومصادر ثقافته وسلطاته التشريعية والقضائية والتنفيذية وسلوكه الاجتماعي والحضاري، وعناصره النابعة من الدين والنشأة والبيئة والتقاليد والعادات والأعراف، والتحديات والمشكلات، والزعماء والنخب، وتأثير وسائل الإعلام والدعاية، والشائعات، والتعليم والتجارب، والظروف الحالية والمستقبلية التي تعكس اتجاهاته وتحدد توجهاته، ضمن دائرة واسعة من الجدل والنقاش والمحاورات التنافسية على صفيحة متحركة من المتغيرات المتجددة، بدخول عناصر إلى المنافسة والجدال وخروج عناصر أخرى، تعكس خلاصة ما يحدث من تفاعل وحراك لأفراد الجماعة، باعتباره طاقة لا نهائية ناتجة عن عملية تفاعل شعورية ولا شعورية تجاه مشهد حدث في بيئتهم وخلق توتر واضح يمس مصالحهم.
مع زيادة التحضر المجتمعي والتطورات الاجتماعية المستمرة تنامى دور الرأي العام، وزاد الشعور بقيمته المؤثرة كمؤشر عام يقيس نبض المجتمع ويعبر عن تطلعاته وأماله ورضاه وسخطه تجاه قضاياه خاصة الحرجة منها التي تتبناه وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وتُحللها المجالس العامة وتناقشها النخب المجتمعية وتوصف بقضايا «الرأي العام». وفي الوقت نفسه زادت القدرة على التعامل معه ومتابعته وتوعيته طبقًا للتقدم الهائل في وسائل الاتصال والتواصل وثورة المعلومات مما جعل الرأي العام أكثر أهمية، وأكسبه قوة تأثير أكبر في الضغط على منظمات الإدارة العامة ومنظمات إدارة الأعمال بمواقف يترقب الناس فاعليتها في الضغط على قنوات صناعة القرار لإدراكهم أنها قوة مجتمعية غالبة تضغط باتجاه الهدف المشترك للجماعة.
إنّ اتحاد خصائص وسمات الرأي العام في منظومة تكاملية تجعله أكثر صدى وأقوى نفاذاً، فهو يظل ساكناً ولا يبرز إلا في مواجهة قضية متصلة بالمصالح المشتركة للجماعة، وضمن تفاعلات نفسية واجتماعية لأعضائه غالبًا ما تُثير تصادماً وقلقاً وخيبة أمل قد تنتاب الجماعة. وهو في هذا الإطار يُمثل إرادة واعية لجماعة كاملة في صيغة معبرة بوضوح وبقوة تكشف عن نفسها حينما يكون الدافع والمؤثر جوهرياً، ولكنه شديد الحساسية بالنسبة للحوادث الهامة والأزمات الطارئة التي تمس همومه وتلامس الحاجات والضرورات.
تعاظم دور الرأي العام الضاغط الذي يحمل على تغيير السلوك الذي يكتسب صلابة وقوة تأثير نابعة من الوعي العام القادر على إخراجه من الحالة الكامنة في نفوس أعضاء الجماعة، إلى حالة العلانية المعبرة عن توجه تلك الجماعة، وفقاً لمنظومة أبعاد أهمها البعد التاريخي الذي يمثل مراحل تطور الجماعة التي ارتبطت بمكان معين وزمن محدد، والبعد الاقتصادي المتعلق بالإنتاج والتوزيع والاستهلاك والتضخم والكساد، والبعد السياسي الذي يمثل الردود الآنية تجاه الأزمات والمواقف وأساليب التأييد والمعارضة ومعالجتها والتصدي لإفرازاتها المتعلقة بمصالح الجمهور، والبعد السيكولوجي الذي يعكس الروح المعنوية التي توجه الرأي العام وتدفعه إلى الانطلاق والتفاعل مع الحدث.
دخلت «الإشاعة» إلى ميدان الرأي كمحرك قوي تذكيه وسائل التواصل الاجتماعي، وتصيغه أدوات التقنية في قوالب توهم بمصداقية تلك الإشاعات التي تسري بسرعة، ويتم تناقلها بتلقائية تلتبس معها الحقيقة بالإشاعة، وتعجز فيها وسائل التقييم عن الحكم على المشاهد والأحدث لتتسع دائرة الشك وتتراجع فرص اليقين. تأتي حملات التوعية في منظومة توجيه الرأي العام والتأثير عليه، ومن أدوات تبصير الجمهور بالأنشطة والإنجازات ولرفع المستوى المعرفي ولتعديل الآراء والاتجاهات، ولتغير العادات والأنماط السلوكية بما يتناسب وينسجم مع التوقعات المستقبلية، بهدف إحداث تغييرات إدراكية أو سلوكية لدى جمهور معين خلال وقت محدد لتحقيق غايات محددة. وتستند حملات التوعية إلى برامج توعوية تتبنى مسئولية تعليم وتثقيف وتوعية المستهدف ليرتقي فكرياً وسلوكياً، عن طريق حملات توعية متعددة الأبعاد لزيادة مستوى الجاهزية.
تسعى مختلف الدول إلى قياس ورصد وتحليل اتجاهات الرأي العام لتدخل كمتغير أساس في صناعة السياسات وتصميم البرامج واتخاذ القرارات، وتولي الدول المتقدمة ذلك أهمية قصوى بتهيئة المراكز المتخصصة لهذه الغاية بمهارات وتقنيات عالية. بينما يقل الاهتمام بدراسات الرأي العام في الدول النامية ولا تكتسب مراكزها الموثوقية إن وجدت. وتقتضي المهارات الفعالة لقياس الرأي العام معرفة الخصائص العامة لكل جمهور من النواحي السلوكية، والنفسية، والاجتماعية، والقيم، والاتجاهات، والأذواق، والرموز والنخب، والآراء السائدة بين الجمهور من جهة، وردود أفعاله من جهة أخرى تجاه الأزمات والمواقف والقرارات الهامة أو ذات المساس بالمصالح، وفي هذا السياق تتنوع وسائل قياس الرأي العام وتأخذ سبلاً مختلفة ووسائل متعددة حسب الظروف والمؤثرات, وذلك من خلال البحوث والدراسات الاستطلاعية والوصفية والتفسيرية، وبالاستبيان الذي هو أداة لجمع البيانات والمعلومات حول موضوع معين عن طريق وضع أسئلة محددة ومقننة، وعن طريق المقابلة التي تعتبر تفاعلاً لفظياً بين شخصين في موقف مواجهة، يحاول القائم بالمقابلة أن يستثير بعض المعلومات أو التعبير لدى الآخر والتي تدور حول آرائه ومعتقداته، من خلال استمارة تحوي مجموعة من الأسئلة تستهدف قادة الرأي والمؤثرين، وكذلك بتحليل المضمون الذي ينطلق من أن اتجاهات الأفراد والمجتمعات تظهر بوضوح في كتاباتها وصحفها وآدابها وفنونها وأقوالها وملابسها وعماراتها، فإذا ما تم تحليل هذه الأدوات، فإنّ ذلك يكشف عن اتجاهات هذه الجماعة، وقد يكون عبر صندوق الشكاوى والاقتراحات. ويمكن قياسه بسياسة الباب المفتوح الذي يتيح لقاءات الجمهور والاستماع لآرائهم واقتراحاتهم والعمل على حل مشكلاتهم، ومن خلال الندوات والاجتماعات العامة التي غالباً يسيطر عليها جو الحوار المفتوح الذي ينبغي الإنصات إليه والتعرف على درجة الرضا والمعارضة من خلاله، وتقدم مراكز قياس اتجاهات الرأي العام أفضل النتائج بالاستطلاع ورصد «الإشاعات» وتحليلها وتقييمها. وتعتبر الملاحظة المنظمة بالنسبة لموضوعات معينة أو قطاعات من الجمهور ومدى تأثير مشكلة معينة على قطاعات من الرأي العام أكثر أدوات القياس المباشر فعالية لقياس الرأي العام والتعرف على اتجاهاته من قبل القادة، لكسب ثقته وتأييده ولترشيد القرارات الهامة التي تتخذ وتهم الجماهير وتمس مصالحهم.
الإرهاب من أبرز قضايا الرأي العام ساخنة التداول وواسعة الانتشار الإعلامي، وقضايا الإرهاب والتنظيمات الإرهابية والمتطرفة تُشكل محور ثنايا الحوارات والتحليلات لمختلف شرائح الرأي العام، باعتبارها المهدد الأخطر لمحور التنمية رأس المال البشري بالاستقطاب وبالتجنيد والاستخدام، أو بالقتل كضحايا للإرهاب في ظل أحداث وحوادث إرهابية متصاعدة تتجاذبها السياسات الدولية ومحاور الصراع وأجندات المصالح، سرعان ما ينسى فيها ضحية الجريمة الإرهابية وتبعات الآثار اللاحقة والممتدة لمن بعده، وينصب الاهتمام على ملاحقة الإرهابي وفلول التنظيمات الإرهابية ومصادر دعمها وتمويلها بتحالفات دولية واتفاقيات إقليمية وثنائية. وكذلك تدمير منجزات التنمية المادية التي أُستثمر فيها الجهد والمال والوقت وشهدتها أجيال قد هرمت وينتابها الحزن العميق على هدرها وتدميرها بصفاقة فكر وشطحة رأي.
الوعي العام الحقيقي لا الوعي العام الزائف، منصة لمنطلقات الرأي العام نحو فهم واقعي لاتجاهات مصلحة الجماعة العظمى التي تتجاذبها الآراء وتتوقف عندها الممارسات المخلة بالمصالح المُجمع على سموها عن النزاعات والنزعات، لتبقى روح الحوار غير المتشنج وقبول الآخر مرجعية النقاش ومستند تداول الآراء وتبادل الحجج بين فئات وأطياف الرأي العام، لتجاوز الأحادية الجامدة إلى التفاعلية المتطورة تبعًا لتحضر المجتمع وأدوات تفكيره.
الوحدة الوطنية وعاء شامل تنصهر فيه مكونات المجتمع وأعراقه وعقائده، بطلها الرأي العام بردود أفعاله واتجاهاته وتوجهاته البنّاءة أو الهدامة, وكلما يتجه الرأي العام نحو المصاهرة وتعلو المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية والمحطات الجهوية، ويتقدم فيه الصوت الجمعي على غيره من الأصوات ذات الميول والأهواء، تقترب الولاءات الوطنية من التجانس وتتباعد الانزلاقات المتعنصرة، وبمقدار تقدم الوعي العام الحقيقي على المزيف يمكن الاقتراب من محصلة الوحدة الوطنية.
المشاركة درجة متقدمة في سلّم أولويات اتجاهات الرأي العام، يسعى من خلالها الخروج من محيط التأثر إلى دائرة التأثير على مسارات المنفعة الجمعية ووسائل الدفع بالمصلحة العامة، للولوج إلى محطات رسم القرار والتشارك معها في صياغته والإعداد له قبل صدوره بممارسات لها ما يبرر تقبلها وقبولها، من خلال نوافذ المجتمع الرقابية على مصلحته العامة ومنافعه التشاركية التي يوظفها الرأي العام باستمرار، للاقتراب من حواضن اتخاذ القرارات لتصدر بدرجة عالية من الرشد، وهذا ما يجعل من الأهمية بمكان عدم معاداته واستيعابه في مراحل مبكرة.
وثيقة السياسة الإعلامية السعودية الصادرة في عام «1402هـ»، تبنت موجهات وإرشادات للتعامل مع معطيات اتجاهات الرأي العام وتحدياته، ولكن مضى عليها عقود طويلة وأحداث ومتغيرات غير متوقعة، جعلتها لا تواكب وسائل الضغط والتأثير المباشر وغير المباشر على أنماط الرأي العام وتوجهاته المتوجسة والمتغيرة باستمرار. وهذا ما يلفت نظر «القيادة الإعلامية الجديدة» إلى ضرورة مراجعتها وإعادة صياغتها وربطها بحجم التهديدات والمخاطر الداخلية والخارجية، التي تتطلب حلولا عملية نابعة من دور الرأي العام الفعّال في تجاوز التحديات والانقسامات بدافع وطني دون تدخل، وذلك بتحسين الوعي العام بسياسات ابتكارية لها سمة المبادأة والتشارك مع منصات ومكونات الرأي العام، في إطار المصلحة المشتركة والوحدة الوطنية التي يؤسس لها السلم المجتمعي، ويُعززها المؤثرون وقادة الرأي، ويُسخر لها الإعلام بمعطياته التقليدية والجديدة بمنهج تكاملي لممارسة وظيفة إصلاحية وتصحيحية، في إطار عام يواكب تحضر المجتمع واتجاهات الرأي العام الممثلة لنبض الشارع، وتدعمها نتائج دراسات مراكز قياس واستطلاع وتحليل للرأي العام تنتظر انطلاقة حقيقة تُسهم في تشكيل وعي عام حقيقي يتبناه الفرد ويباركه المجتمع.